تاريــخ فلسطين 13401713
تاريــخ فلسطين 13401713
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول


اهلا بكم في منتدى الكرم وأتمنى الاستفادة واتباع القوانين المرجوة منكم

   فالمنتدى منتداكم حافضو عليه





                                            

تاريــخ فلسطين Yhq28610
تاريــخ فلسطين Cdlara14
تاريــخ فلسطين Ha728610

تاريــخ فلسطين Moz-screenshotتاريــخ فلسطين Moz-screenshot-1
 

تاريــخ فلسطين 19826611

 

 تاريــخ فلسطين

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الكرم
المدير
المدير
الكرم


عدد المساهمات : 476
تاريخ التسجيل : 21/10/2009
العمر : 33
الموقع : alkaram.forumarabia.com

تاريــخ فلسطين Empty
مُساهمةموضوع: تاريــخ فلسطين   تاريــخ فلسطين Emptyالخميس يوليو 29, 2010 2:33 pm

مدينة الإنسان

لم يكن هبوط آدم وحواء من الجنة عقوبة بقدر
ما كان إمضاءً لسنة إلهية قضت بأن يعيش الإنسان رحلة حياته الأولى في دارٍ يُبنَى
العيشُ فيها على ثنائية الراحة والتعب.


وقد التمس الإنسان لنفسه فيما علّمه الله
تعالى وألهمه ـ أسبابًا تجلب له الراحة، وتدفع عنه التعب والنصب، وكان اتخاذ البيوت
والمنازل واحدًا من أبرز هذه الوسائل وأهمها.


في البدء كانت البيوت متناثرة متباعدة، تعتمد
على ما يتوافر في الأرض وعليها من موادَّ، فهذا بيت من شَعْر، وذاك منزل من
حَجَر... وسكن الإنسان الكهوف ـ كبيوت جاهزة ـ في بعض مراحل حياته فوق
الأرض.


ومع استمرار مسيرة الزمن دنت البيوت من
البيوت، وتقاربت حيطانها، وكثرت أعدادها وأصبح الناس يرون كل مجموعة من البيوت وحدة
واحدة. وعلى أكتاف هذه الوحدات قامت فكرة القرى والمدن. ومشى الإنسان على الأرض
زمنًا، يبعثر في أنحائها القرى والمدن: على مجاري الأنهار، وفي الأودية والبقاع
التي تَخْصُب فيها الزراعة، وحيث تَنْصَدِعُ الأرض فتُنبت الحب والثمار، وحيث ينشط
مرور التجّار..


ويا لها من رحلة طويلة وعجيبة، حملت فيها
الأرض أثقالاً وأثقالاً فوق ظهرها؛ مدنًا وقرىً، لكن هل تستوي المدن جميعًا، فتقف
على درجة واحدة من عراقة التاريخ، وتلبس ثياب الطهر وأزياء القداسة.


لقد تفاوتت مقامات المدن ودرجاتها، حتى علا
بعضها في الذُّرَى حيث لا يُلحق، واكتفى بعضها الآخر بطرف من المجد، وبقي الكثير
مغمورًا في إطاره المحلي لا يتعداه.. ومن النجوم البازغة في سماء المدن مكة
والمدينة والقدس، وكذلك دمشق وبغداد وطيبة وروما وقرطبة، وغيرها...


وإذا كان لكل مدينة موضعها وموقعها الجغرافي
الخاص بها، فإن لكل واحدة منها أيضًا شخصيتها التي تميزها.. والقدس، أو بيت المقدس،
أو أورشليم، أو إيلياء ـ هي إحدى الأمهات الكبرى للمدن التي شيدها الإنسان فوق ظهر
الأرض، بل هي زهرة مدائن الدنيا.


القدس زهرة المدائن:

كانت الأرض واسعة لا يتصارع عليها الناس،
بِكْرًا تَبُوحُ لهم كل يوم بِسِرٍّ كبيرٍ من أسرارها، فهنا نهر كبير يجري، وهناك
وادٍ خصيب جواد بالخضرة والخير، وهناك آبار غزيرة فياضة بالماء .. هكذا بدا المشهد
في المراحل المبكرة لحياة البشر فوق الأرض.


وقد سعى الإنسان منذ القدم وراء هذا الخير
الذي نشرته يد القدرة الإلهية الخالقة في الأرض، وهناك أقام الإنسان مدنه ومنازله
وقراه.


وقد جعل الله تعالى الناس شعوبًا وقبائل،
وكان من نصيب اليَبُوسِيِّين ـ وهم سامِيُّون عرب ـ تشييدُ البناء الأول لمدينة مِن
أعظم مدن الدنيا والتاريخ، وذلك قبل الميلاد بثلاثين قرنًا، حيث لم يكن النبي
الكريم إبراهيمُ ـ عليه السلام ـ قد ظهر فوق صفحة التاريخ داعيًا إلى التوحيد،
منتقلاً به من العراق وما بين النهرين، ومتنقلاً به بين الشام ومصر
والحجاز.


ولم يكن بناء اليبوسيين لزهرة المدائن أو
مدينة بيت المقدس سوى البناء الأول لها، وعلى مدى التاريخ جددت المدينة ثوبها ثماني
عشرة مرة، فهدمت أو دمرت ثم أعيد بناؤها في كل هذه المرات، حتى استقرت على هيْأتِها
في العهد العثماني، ودخلت عليها زيادات أخرى كبيرة مع الاحتلال الإسرائيلي للتقليل
من شأن القدس القديمة ومسخ طابعها الخاص.


القدس بين البناء والهدم:

اختار الله ـ تعالى ـ لمكة أن تكون في المركز
الحقيقي للكرة الأرضية، لكنها ظهرت كوديعة في قلب الصحراء الأمين، بعيدًا عن مواطن
الاحتكاك، وأماكن الصراع بين الأمم، تأمينًا للأداء المطمئن لمناسك الطاعة في هذا
المكان المختار المقدس.


أما بيت المقدس، فهي جوهرة ألقيت في قلب
العالم المَوَّارِ بالحركة، حيث تتلاقى أطراف أمم شتى، وتطل عيون كثيرة طامعة في
السيطرة على هذه البقاع.. وكأن القدس تبعث الحيوية في حياة البشر بهذا الموقع وتلك
المكانة التي لها، فتتلاطم فيها أمواج البشر: المسالمة طلبا للقرب، والمحاربة طمعا
في السيطرة وبسط السلطان.


والقدس مدينة ذات أرقام قياسية كثيرة،
حققتْها منذ جلست في موضعها من بلاد الشام وأرض فلسطين، فقد هُدمت، أو دمرت، وأعيد
بناؤها ثماني عشرة مرة، ودخلها الفاتحون ـ من شتى الأمم ـ سبعا وثلاثين مرة، كما
نالت منزلة رفيعة عند المسلمين، ولدى اليهود والنصارى.


وعلى يد اليبوسيين الكنعانيين كان البناء
الأول "لأورسالم" التي سميت عند المسلمين بيت المقدس، وتتابعت فيما جاء بعد ذلك من
التاريخ أمم عديدة سيطرت على المدينة المباركة فجاء المصريون القدماء، والعبرانيّون
من بني إسرائيل، وتبعهم البابليون الذين كانوا عُتَاةً جبارين، وجاء الفرس على
أثرهم، ثم اجتاحت جيوش الإسكندر المقدونيّ المنطقة بأسرها حتى سيطروا عليها. وخلف
على بيت المقدس بعد زوال دولة الإسكندر وخلفائه ـ الرومانُ، الذين بقيت المدينة في
أيديهم، حتى فتحها المسلمون، وبقيت في أيدي المسلمين منذ ذلك الزمن (العام السادس
عشر للهجرة)، وإن تعرضت للاحتلال ثلاث مرات: من الصليبيين في نهاية القرن الخامس
الهجري، ومن البريطانيين ثم اليهود في القرن العشرين الميلادي.


اليبوسيون يبنون بيت
المقدس:


كما لم يكن هنالك بشر يوم خلق الله ـ تعالى ـ
الأرض، لم يكن هنالك ـ أيضًا ـ يهودي ولا إسرائيلي يوم بني اليبوسيّون بيت المقدس،
فقبل الميلاد بثلاثين قرنًا (أي: في العصر البرونزي) اختارت الأقدار الموقع
والبُنَاةَ الذين شيدوا مدينة القدس لأول مرة فيما هو معروف لنا من
التاريخ.


ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، أو خمسة آلاف
عام من اليوم، تفصل بيننا وبين تلك العقول العربية القديمة التي راحت تختار للمدينة
المقدسة موقعَها، وتخطط لمبانيها.. وتلك العضلات التي راحت تنفِّذ خِطط البناء،
واضعة حجرًا فوق حجر، وواصلة جدارًا بجدار، حتى استتمّ بناء المدينة الصغيرة،
وبَدَتْ كأنها طفل وديع يتطلع من فوق هضبة عالية إلى الدنيا من
حوله.


إن المعلومات التي نعرفها عن اليبوسيّين؛
أولِ من بنى مدينة بيت المقدس ـ قليلةٌ، وإن كان من المؤكد أنهم فرع من الكنعانيين
العرب الذين هاجروا من الجنوب، وبالتحديد من شبه الجزيرة العربية، إلى هذه الأنحاء
ذات الموقع المتميز والمتفوقة في ثرواتها قياسًا بصحراء الجزيرة العربية القاسية...
وكانت لغة اليبوسيين الأصليةُ كنعانيةً، ثم انضمت إليها فيما يُعتقَد لغةُ
البابليّين عند سيطرتهم على القدس.


وقد اختار اليبوسِيّون شمال بلاد فلسطين
ليَقْطُنُوا فيها، بينما اختار أبناءُ عمومتِهم الفينيقيّون سُكْنَى الشواطئ
الجنوبية لفلسطين.


ولم يكن العقل البشري حينئذ معطلاً عن
التفكير وحُسن التدبير، برغم البعد الزمني الكبير بيننا وبين اليبوسيين؛ فهم حين
فكروا في تشييد عاصمة لهم اختاروا موضعًا حصينًا مرتفعًا عما حوله من الأرض،
وبَنَوْا لها حصنا؛ حتى تبقى في مأمن من الأعداء، واختاروا لها أيضًا موقعا
استراتيجيًا حيويا؛ حتى ينتفعوا بمميزاته التجارية وخيراته الطبيعية، فبنيت المدينة
مع مجموعة من المدن الكنعانية على طريق المياه بين الشمال والجنوب على مرتفع الضهور
قرب عين ماء جيحون أو نبع العذراء في موقع حيوي. وحفر اليبوسيون نَفَقَـًا تحت
الجبل لنقل مياه النبع إلى داخل الحصن.


وكان ذلك في عهد الملك الكنعاني "سالم"، الذي
عُرف بملك السلام، وعُرفت مدينته باسم "يبوس"..


وجاء الملك اليبوسي "ملكي صادق" في القرن
الحادي والعشرين قبل الميلاد تقريبا، فزاد في مباني المدينة، وشيد على المرتفع
الجنوبي المعروف اليوم بـ "جبل صهيون" قلعة للدفاع عن القدس، التي صار اسمها حينئذ
أوروسالم أو أورشاليم كما نطقها العبريون بعد ذلك بزمن طويل.




وفي مدن فلسطين القديمة أرشدت الحفائر إلى أن
البيوت كانت صغيرة متراصَّةً، تتكون من طابق واحد، وهي إما من الطين أو الحجر
العادي، وعادة تكون في سفح تل، أو عبارة عن كهوف في سفح التل. أما في داخل المدينة،
فالشوارع ضيقة جدًا وملتوية، ولا توجد بها ميادين وعند مدخلها "السوق" حيث تقام
المحكمة، وتعقد العقود، وتعلن التشريعات.


وفي هذا الزمن البعيد، كانت للقدس أهمية
تجارية خاصة؛ لربْطِها بين البحر والصحراء، وَوَصْلِهَا حبرونَ (الخليل) ببيت إيل
من أعمال رام الله، وتستمر الطريق من بيت إيل نحو شكيم (نابلس) من ناحية، ونحو
أريحا ووادي الأردنّ من ناحية أخرى.


علاقة المصريين القدماء
بالقدس:


فوق أرض مصر قامت واحدة من أقدم الحضارات
البشرية، في الوقت الذي كانت فيه بقاع كثيرة من الأرض لم يسكنها الإنسان بعد.. وقد
كان المصري القديم في وقت القوة يمد ذراع سيطرته إلى البلاد المجاورة له، لتصبح
تابعة للتاج المصري.. ومن هذه البلاد: أرض الشام، وبلاد ما بين النهرين، والأناضول،
وغيرها..


وفي القرنين العشرين والتاسع عشر قبل الميلاد
سعى فراعنة الأسرة الثانية عشرة إلى بسط سلطانهم في اتجاه سوريا، ووصلوا بسيطرتهم
السياسية والاقتصادية إلى أرض كنعان، وإن لم تصبح إقليمًا مصريًا. وانصبّ الاهتمام
المصري على المدن القائمة في أرض كنعان؛ لأهميتها التجارية والعسكرية، والتي لم يكن
للقدس منها حظ وفير حينئذ، إلا أنها نَمَتْ بعد ذلك بقليل حتى أصبح الملكُ
سيزوستريس الثالث في القرن التاسع عشر قبل الميلاد يَعُدّ مَلِكَها عدوًا له يستوجب
اللعنات في الطقوس الدينية.


وانشغل المصريون بشئون بلادهم الداخلية عن
التدخل في بلاد كنعان زمنًا حتى جاء القرن الخامس عشر قبل الميلاد فدخل الفراعنة في
صراع مع إمبراطورية الحيثِيّين في الأناضول، والملوك الشماليين في بلاد ما وراء
النهر، فأصبحوا في حاجة ماسّة إلى تأمين خضوع أرض كنعان لسلطانهم، حتى يعبروا إلى
أعدائهم في أمان، فنجح تحتمس الثالث في القيام بمهمة الإخضاع، الذي شمل القدس
أيضًا، وإن تمتع الملوك في المنطقة بنوع من الاستقلال الواضح.


وفي القرن الرابع عشر قبل الميلاد ، جلس على
عرش مصر الملك أمينوفيس الثالث وابنه أمينوفيس الرابع أو إخناتون، فأرسل أديهبا
والي القدس إلى الفرعون يطلب الغوث والنجدة ضد قبائل وعشائر نزحت من الصحراء إلى
فلسطين، وراحت تهدد الأمن، وتسبب الكثير من الفوضى والاضطراب، وهذه القبائل هم
العبريّون من بني إسرائيل.


وقد عاد المصريون إلى بيت المقدس، وسيطروا
عليها مرة أخرى بعد وفاة النبي سليمان ـ عليه السلام ـ وانقسام مملكته في القرن
العاشر قبل الميلاد، وكانت السيطرة المصرية هذه المرة على يد الفرعون شيشناق من
الأسرة الثانية والعشرين.


وإذا كانت القدس ومصر قد دخلتا بعد ذلك ـ ضمن
المنطقة ـ تحت سلطة أجنبية واحدة عدة مرات، على يد اليونانيين والفرس والبطالمة
والرومان ـ فإن الفتح الإسلامي لمصر، لم يتيسر إلا بعد فراغ عمرو بن العاص من أمر
بيت المقدس، حيث حاصرها طويلاً، حتى صَالَحَ عمرُ بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ
أهلَها. وأدخل الفتح المبارك مصر والقدس تحت سلطان المسلمين، فصنعوا لهما هوية
واحدة، وبقى الرباط بين البلدين علامة من علامات التاريخ في المنطقة إلى
الآن.


الخليل إبراهيم في القدس:

فيما بين النهرين، وقبل الميلاد بعشرين قرنًا
تقريبا، ظهرت شخصية من أمهات الشخصيات الإنسانية، وهو سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام
ـ فوجد قومَه يعبدون البشر والحجر والكواكب والنجوم، من دون الله ـ تعالى ـ فحنف
ومال عن تلك الخرافات، وراح يجادل قومه ويحاججهم ، فوجد قلوبًا مملوءة بالهَوَى
وتقليد الآباء، وعقولاً مغلقة على ما سبق، وإن كان خرافةً لا يستسيغها عاقل.. وأكثر
من ذلك وجدهم يردّون على حججه القاطعة بالأذى ومحاولة الإفناء الجسدي، فهاجر إلى
ربه.


ومن هذه اللحظة ساح الخليل إبراهيم في أرض
الله، وغرس في كل بلد دخله مَعْلَمةً للتوحيد، أو ترك أثرًا يجعل لعبادة الله
احترامًا في نفوس الخلق، فدخل مصر، وملأ نفس ملكها احترامًا وهيبة له، ودخل مكة،
وترك بها ذرية مؤمنة وبيتا يمثل معلما للتوحيد، ودخل أورشليم بيت المقدس وبلاد
الشام، وبنى المسجد الأقصى ـ فيما يقال ـ وترك هناك ذريته من ولد إسحاق ويعقوب،
الذين بقي لهم ذكر في التاريخ، وكثرت ذريتهم: (.. فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت
عليه الضلالة.. ).


لقد ترك إبراهيم ذريته وسط العرب في موطنَيْن
من الأرض، فترك بِكْره إسماعيل بين الجُرْهُميين العرب في مكة، وترك ولده الثاني
إسحاق بين أظهر العرب الكنعانيين، فنما زرع إسماعيل، وكثرت ذريته، حتى صار أبا
لهؤلاء المستعربين في الجزيرة العربية، وجاء من هذا النسل الكريم خاتم النبيين محمد
ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي كان يرجع برسالته إلى حنيفية إبراهيم ـ عليه السلام.


كما نما زرع إسحاق، وكثر أبناء ولده يعقوب،
الذي انحدر من نسله بنو إسرائيل، وخرج من ذريته أنبياء كثيرون أقاموا في القدس وما
حولها.


يعقوب وبنوه:

"إسرائيل" ويعقوب علمان على شخصية واحدة،
كُتبت في سجلات النبيين، ووُصف بأنه "الكريم ابن الكريم ابن الكريم..".. بدأ رحلة
حياته في أرض الشام، مستكملا مسيرة أبويه إبراهيم وإسحاق هناك.. ورُزق يعقوب باثني
عشر ابنا، وكان متوقعا أن يستمر تناسلهم وتكاثرهم في بيت المقدس وما حولها، لكن
القحط والجدب في هذا الموطن حينئذ، وشغْلَ يوسف بن يعقوب ـ عليهما السلام ـ منصبا
كبيرا في بلد خصيب هو مصر ـ دفعت ببيت يعقوب إلى الهجرة.


هاجروا إلى موطن جديد، وفي ركبهم نبي،
وينتظرهم في مصر نبي، فليس المهم لديهم أن تكون الإقامة هنا أو هناك، ما دامت حرية
العبادة مكفولة، وما دامت ضروريات الحياة متوافرة.


هاجروا إلى مصر، ومرت عليهم فيها أربعة قرون،
بقوا خلالها فصيلا مميزًا من البشر، ولم تشأ الأقدار الإلهية أن يذوبوا وسط سكان
الشام من العرب، ولا وسط المصريين الحاميّين، حتى خرج بهم موسى ـ عليه السلام ـ من
مصر، وأراد أن يرجع بهم إلى بيت المقدس قبل الميلاد باثني عشر قرنًا، إلى الأرض
التي بارك الله حولها، ليخطوَ تلك الخطوات المباركة التي خطاها من قبل في المدينة
المقدسة الخليل إبراهيم ـ عليه السلام ـ لكنهم عصوا الله ورسوله.


النبي موسى والأرض
المقدسة:


(يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله
لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين).. هكذا حكى القرآن نداء موسى ـ عليه
السلام ـ لقومه من بني إسرائيل بدخول بيت المقدس وما حولها، بعد أن نجاهم الله من
فرعون وقومه ـ في القرن الرابع عشر قبل الميلاد تقريبا.


ولم يفهم بنو إسرائيل أن مهمة الناس تجاه
رسولهم، بعد الإيمان به عن قناعة وطواعية، هي طاعة أمره، ولو شق على النفس، وصعب
على الإمكانات المتاحة، فراحوا يخاطبون رسولهم الكريم موسى بما يخالف أدب الخطاب مع
العظماء الذين اصطفاهم الله، فقالوا: (يا موسى إن فيها قومًا جبارين وإنا لن ندخلها
حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون).


فخافوا وجبنوا عن مواجهة قومٍ لمجرد أنهم
يفوقونهم في ضخامة الجسد وقوة البنية، ولم يعلموا أن النصر لا تقف خلفه هذه الأسباب
وحدها، فالعقيدة الراسخة، والهمة العالية، والحرص على إرضاء الله ـ تعالى ـ كل هذه
قوى دافعةٌ تَسقط تحت أقدامها الفروقُ والمميزات الأخرى.




لقد تربّت هذه الأنفس على العبودية والذل
حينما سخرهم الفراعنة للخدمة والأعمال الدنِيّة، وأبَى بنو إسرائيل ـ عندما أتيحت
لهم الفرصة ـ أن يطلّقوا هذه العبودية، وذاك الجبن، واكتفوا بأن تتدخل اليد الإلهية
لإنقاذهم من فرعون، أما هم فلن يفعلوا شيئا، ولو من أجل دخول الأرض المقدسة التي
كتبها الله لهم!! فقالوا: لنبيهم: (إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت
وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون).


وبهذه المعصية حُرِم بنو إسرائيل في هذا
الجيل من تملك بيت المقدس، فشكاهم موسى إلى ربه (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي
فافْرُقْ بيننا وبين القوم الفاسقين)، فكتب الله عليهم التيه في أرض سيناء أربعين
سنة، لم تنقطع فيها نعم الله عنهم، حتى ظهر جيل آخر أقرب إلى الله ـ تعالى ـ فقادهم
يوشع بن نون تلميذ النبي موسى ـ عليه السلام ـ أول القرن الثالث عشر قبل الميلاد
تقريبا ـ فدخلوا بلاد الشام، واستولوا على أريحا شرقي القدس، دون أن تتم لهم
السيطرة الكاملة على الأرض المقدّسة، فقد تأجل ذلك إلى القرن العاشر قبل الميلاد،
ليتحقق على يد داود ـ عليه السلام.


القدس عاصمةً لمملكة داود:

في عيون أهل الدنيا تعلو منزلة الملوك كل
منزلة، وفي عيون طلاب الآخرة يرتفع مقام الأنبياء فوق كل مقام، وهذا داود ـ عليه
السلام ـ قد جمع الله له الملك والنبوة معًا، فسجله التاريخ كواحد من الشخصيات
العظيمة بالمقياسين الديني والدنيوي.


بزغ نجم داود في القرن الحادي عشر قبل
الميلاد، في وقت صراع بني إسرائيل مع الملك جالوت المسيطر على بيت المقدس، حيث طلب
بنو إسرائيل من أحد أنبيائهم أن يختار منهم ملكا يقودهم لدخول بيت المقدس، فرضُوا
بعد جدال لم يكن هناك ما يدعو إليه ـ بطالوت الذي اختاره لهم نبيهم بأمر الله ـ
تعالى.


وقاد طالوت جموع بني إسرائيل الكثيفة لقتال
عدوهم، ونفوس الإسرائيليين موزعة، ما بين طامع في نصر دين الله ـ تعالى ـ وطامع في
تحقيق نصر لا يدفع له ثمنًا.. وفي الطريق تساقط من جنود طالوت كثير من أتباعه أمام
الاختبارات، فخالفوا قائدهم، وجبنوا لِمَا رأوا من قوة جنود جالوت، فتقدم طالوت
بنحو ثلثمائة من المؤمنين ثبتوا معه، وبرزوا لعدوهم في إيمان وشجاعة، وتضرعوا إلى
ربهم أن يلبسهم الصبر ويرزقهم ثبات الأقدام والنصرَ على العدو، فمكن الله هؤلاء
المؤمنين من رقاب عدوهم فغلبوهم، وطلع نجم داود حينما تقدم من جالوت الملك نفسه،
فأرداه قتيلاً، وحسم المعركة لصالح العصبة المؤمنة سنة ألف وتسع وأربعين قبل
الميلاد تقريبا.


من يومها أصبح داود عند بني إسرائيل ـ مؤمنهم
وكافرهم ـ رمز المجد والنصر، خاصة أنه تولى الملك عليهم، وأقام دولة مسلمة عاصمتها
بيت المقدس.


وحين دخل داود المدينة المباركة وجدها مقامة
على الجانب الشرقي، فأقام في الجانب الغربي جزءًا آخر يكاد يكون مدينة وحده، وبنى
فيه القصر، مستعينًا في ذلك بخبرة أهل بيت المقدس، وهم ذوو أصول سامية
عربية.


وأكثر من ذلك أن الشعب في مملكة داود كان
كثير من أفراده من اليبوسيين العرب، بل إن العهد القديم الذي يقدسه أهل الكتابَيْن
يذكر أن داود عليه السلام - تزوج من هؤلاء العرب.


وتحت حكم داود بقيت القدس أربعين سنة عاصمة
لدولة موحدة، ونشطت التجارة في المنطقة المحيطة في هذه الفترة.


وانتقل الملك بوفاة داود إلى ابنه سليمان ـ
عليهما السلام ـ فبلغت المملكة أقصى اتساع لها في عهده.


القدس عاصمة لمملكة
سليمان:


بعد أربعين سنة من الحكم والملك مات سليمان ـ
عليه السلام ـ حوالي عام ثلاثين وتسعمائة قبل الميلاد، وقد بقيت مملكته طوال هذه
المدة قوية مرهوبة الجانب، وظلت القدس عاصمة له طوال حكمه ..


وأتيح لسليمان من أسباب القوة والسيطرة ما لم
يتح لأبيه من قبله، فكان له جنود من الجن والإنس ومن الطير، وسخر الله له الريح
تتحرك بأمره حيث شاء، وعلمه لغة الطير، مما مثل عنده أدوات لنشر الدين ومحاربة
الوثنية والخرافة.


والقدس عند نبي الله سليمان أكثر من عاصمة
سياسية لمملكته؛ فهي قبل ذلك، منار ينطلق منه نور النبوة، وتقام فيه العبادة لله
تعالى وحده، وقد جدد سليمان ـ عليه السلام ـ بناء المسجد الأقصى بالمدينة المقدسة،
واستعمل الإنس والجن في ذلك، حيث عملوا له محاريب، وغير ذلك من البنايات التي تخص
المسجد.


ولم تقتصر حركة سليمان العمرانية على مسجد
بيت المقدس الجليل، بل اتسعت لتشمل المدينة كلها، وكثيرًا من الجهات والبقاع في
مملكته، فغدت القدس مجالا لحركة عمرانية كبيرة، ودخلت عليها توسيعات كثيرة. والقرآن
في حديثه عن سليمان يشير إلى اهتمامه بالبناء والعمران عموما، واستخدامه الجن في
هذه المهمات (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجِفَان كالجواب وقُدُور
راسيات). وقد جاءت ملكة سبأ إلى النبي سليمان في عاصمة ملكه، فوجدت أمامها صرحا
عجيب البناء، أقيم من الزجاج فبهرها، حتى أسلمت لله، الذي يؤمن به سليمان قبلها
بالرغم من أن ملكه أعظم من ملكها مراتٍ ومراتٍ.


وللشهرة الواسعة التي نالها سليمان، حتى وهو
حي، بقيت عاصمته أورشليم جاذبة للناس من كل الأجناس، ومن علامات شهرته أن ملكة سبأ
حينما تلقت كتابه إليها، قالت للناس من أنصارها: (إنه من سليمان..) ، فحدثتهم
بطريقة مَنْ يعرف سليمان جيدًا.


وقد كانت روعة البناء والعمران السليماني في
القدس وغيرها جاذبة لأعين الملوك فيما بعد، فحرصوا في غزوهم لبيت المقدس على سلب
كنوزها، وتخريب عمرانها، ومثلوا سيف انتقام قاسيا من بني إسرائيل، ومن هؤلاء:
البابليون والفرس واليونان والرومان.


الغزو البابلي لبيت
المقدس:


بعد وفاة سليمان ـ عليه السلام ـ دب الخلاف
بين بني إسرائيل، وتنازعوا على الملك، وانقسموا دولتين: إسرائيل في الشمال، ويهوذا
في الجنوب، وعاصمة الأخيرة بيت المقدس.


ودب فيهم الداءان: الفرقة، وضعف الإيمان
بالله، فكان من أثر ذلك أن تسلط عليهم أعداؤهم، فاقتحم الآشوريون القساة دولتهم
الشمالية، وشردوا الشعب فيما سمى بـ "السبي الأول"، حوالي عام سبعمائة وواحد وعشرين
قبل الميلاد.


وأما الدولة الجنوبية يهوذا، فقد اكتسحها
البابليون، يقودهم نبوخذ نصَّر أو بختنصر البابلي، الذي تعامل مع بني إسرائيل بقسوة
شديدة أيضا، لضلوعهم في معاونة خصومه من فراعنة مصر ـ كما يذكر بعض المؤرخين ـ فحطم
بختنصر بيت المقدس، وذبح قائد الإسرائيليين وأبناءه، ونفى الشعب الإسرائيلي إلى ما
بين النهرين، فيما سمى بـ "السبي الثاني". وهرب الكثيرون من وجه البطش البابلي إلى
مصر والشمال الإفريقي وشبه الجزيرة العربية، وأصبحت القدس مدينة مدمرةً تتردد في
أنحائها أصوات الخراب والدمار، وصارت خالية من الإسرائيليين تماما. وذلك في أوائل
القرن السادس قبل الميلاد.


في هذا الزمان كان الآشوريون حكاما أقوياء
فيما بين النهرين، فزحف البابليون في دولتهم الثانية على العاصمة الآشورية نينوى
حتى سلبوا منها المجد، وحطموا الدولة الشرسة، ثم انطلق البابليون يوسِّعون سلطانهم،
حتى أخضعوا الشام وبيت المقدس، ومنذ هذا اليوم سرى على القدس قانون أن الأقوى هو
وحده الذي يستطيع السيطرة على المدينة المقدسة، يصدق ذلك على البابليين، كما يصدق
على الفرس من بعدهم، ثم اليونان، ثم الرومان، وهكذا.


سيطرة الفرس على بيت
المقدس:


في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، وبعد أن
أزال الإمبراطور الفارسي قورش مُلْكَ البابليين، راح الفرس يبسطون سلطانهم على
المواضع المهمة من العالم المحيط بهم، وكانت دولتهم فَتِيَّةً تملك من أسباب القوة
ما يمكّنها من ذلك، كما كان سلطانُها الكبير قورش يسلك سبيل الرفق مع خصومه، على
النقيض من سابقِيهِ من الآشوريين والبابليين الذين لم يقتصروا على الشدة مع أعدائهم
في ساحات الحرب، بل اشتدوا أيضا في مواجهة الشعوب بعد فتح الدول والاستيلاء على
المدن.


وقد كان قورش أحد الفاتحين التاريخيين لبيت
المقدس، فقد اتخذ قرارًا ذا أهمية خاصة في تاريخ اليهود، وهو السماح لهم بالعودة من
السَّبْيِ إلى بيت المقدس، بعد أن مزق البابليون جموعهم، لكن كثيرا من الإسرائيليين
كانوا قد كيّفوا حياتهم مع الواقع الجديد، واستقرت أوضاعهم في بلاد ما بين النهرين،
وفضلوا البقاء في المنازل الهادئة التي أقاموها على شواطئ دجلة. إلا أن القلة التي
عادت إلى المدينة المقدسة أعادت بناء سور المدينة وبيت العبادة من
جديد.


ومع أن الفرس قد غادروا المدينة ومدنا أخرى
كثيرة غيرها أمام زحف الإسكندر المقدوني الكاسح، إلا أنهم عادوا إليها، والرسول
محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مرحلة دعوته في مكة، وذلك بعد الانتصار الكاسح الذي
حققوه في مواجهة البيزنطيين سنة 614 من الميلاد، وعاد الفرس ليلقوا هزيمة مريرة
أمام الحشود الهائلة التي قادها هرقل بعد هذا التاريخ بثلاثة عشر عاما، حيث سيطر
الروم البيزنطيون على بيت المقدس بضع سنوات، انتهت بالفتح العُمَرِيّ للمدينة
المقدسة سنة ست عشرة من الهجرة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alkaram.forumarabia.com
الكرم
المدير
المدير
الكرم


عدد المساهمات : 476
تاريخ التسجيل : 21/10/2009
العمر : 33
الموقع : alkaram.forumarabia.com

تاريــخ فلسطين Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريــخ فلسطين   تاريــخ فلسطين Emptyالخميس يوليو 29, 2010 2:34 pm

تابع

اليونانيون ووجود قلق في
القدس:


الإسكندر الأكبر أو الإسكندر المقدوني، أحد
القادة الكبار في التاريخ البشري، شرَّق بقواته وغرَّب فاتحا للبلاد والمدن،
واستولى بقواته، وهو في مَيْعَةِ شبابه، في القرن الرابع قبل الميلاد، على مساحات
واسعة من الأرض المعمورة حينئذٍ، فكون إمبراطورية لها ممتلكات في كل قارات العالم
القديم: أوروبا وآسيا وإفريقيا.


وكان من قدر مدينة بيت المقدس أن تقع في يد
هذا القائد الكبير، الذي أزال دولة الفرس، حين هزم دارا الثالث بالقرب من نهر
إيسوس..


وقد سار الإسكندر في معاملته لليهود سير
سابقِيه من الفرس، فمال إلى الرفق بهم؛ إذ استطاع أحد أحبار اليهود أن يؤثر عليه،
وينال رضاه.


وعلى الرغم من ذلك فقد ضعفت أهمية بيت المقدس
في هذه الفترة؛ إذْ كانت القوافل التجارية تمر بالمدن القريبة منها، دون أن تكون في
حاجة إلى الذهاب إلى أورشليم التي تفتقر إلى المواد الخام التي تعتمد عليها
التجارة.


واختطف الموت الإسكندر سنة 322 قبل الميلاد،
وهو في شرخ شبابه، وكان قد مر على فتحه للقدس عشر سنوات فقط.. فانفتح بموته بابٌ
لصراعٍ مرير بين ذوي النفوذ في دولته؛ إذْ لم يتركْ لخلافته سوى طفل صغير، كان
تولّيه إيذانا بقيام المعارك والصراعات الطاحنة بين أصحاب النفوذ في جميع أنحاء
إمبراطورية الإسكندر، و"تعرضت أرض يهوذا ـ وعاصمتها أورشليم ـ باعتبارها منطقة عبور
مركزية للقوات المتصارعة ـ للغزو المتواصل من الجيوش السائرة من آسيا الصغرى إلى
سوريا أو مصر، تحمل أمتعتها ومعداتها وعائلاتها وعبيدها. وفُتحت أورشليم ست مرات
على الأقل في تلك السنوات".


تأرجحت السيطرة على القدس في هذه المرحلة بين
طائفتين من اليونانيين هم: البطالمة والسلوقيون، فأخذ بطليموس الأول الذي سيطر على
المدينة سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة قبل الميلاد ـ ينفي اليهود خارج القدس، ونقل
الكثير منهم إلى الإسكندرية.


ومالت الكفة إلى السلوقيين سنة 275 قبل
الميلاد، فاستولوا على بيت المقدس، ثم عاد البطالمة من جديد واستولوا على المدينة
المقدسة سنة 199 قبل الميلاد، فدمر اليونانيون بيت العبادة الإسرائيلي، وكثيرًا ما
كانوا يستدرجون اليهود إلى يافا، ويغرقونهم في مياهها، وازدادت الهجرات اليهودية
إلى مصر والشمال الإفريقي وبلاد ما بين النهرين خلال هذه الفترة.


وقد جعلت هذه الأحداث الدامية اليهود أكثر
ميلا إلى الحكم السلوقي، فعاونوه ضد البطالمة والمصريين (الذين كانوا خاضعين للحكم
البطلمي أصلا)، فعادت أورشليم تابعة للسلوقيين من جديد، وخفف أنطيخوس السلوقي
الضرائب عن اليهود، واهتم بعمارة المدينة وتدعيم حصونها، حتى ازدهرت أورشليم، وصارت
مدينةً فخمة معمورة بالسكان.


ولم يمر وقت طويل حتى اقتحم المدينةَ غازٍ
جديد، هو أنطيوخوس أبيفانس الحاكم اليوناني في سوريا، وذلك حوالي سنةِ مائة وسبعين
قبل الميلاد، فنهبها وذبح الكثير من سكانها، ثم أرسل قائده أبولونيوس ليواصل عمله
في تدمير المدينة ومعبدها، مما نتج عنه ثورة يهودية عارمة سنة ثلاث وستين ومائة،
تسمَّى ثورة المكابيين، التي نجح اليهود فيها في طرد اليونانيين من بيت
المقدس.


الرومان في القدس:

الروم البيزنطيون من الأمم التي كان وجودها
في بيت المقدس بارزًا وطويل المدى، فقد استعمروا المدينة، وسيطروا عليها قرابة
سبعمائة عام..


فقبل الميلاد بحوالي ستين عامًا، وقع الخلاف
بين أصحاب السيطرة من اليهود في بيت المقدس، فانقسموا فرقا، وطلب بعضهم العون من
الرومان القريبين، فأقبلت جحافل الرومان الغازية يقودهم بومبي حتى ضربت الحصار على
بيت المقدس، ووقفوا بأسوار المدينة حتى اقتحموها بمهارة عالية، مستخدمين أدوات
الحصار والاقتحام من المجانيق ورءوس الكباش وأبراج الحصار، وقُتِلَ اثنا عشر ألف
يهودي في المذبحة التي ارتكبها الرومان عقب دخولهم المدينة.


وطوال فترة التواجد الروماني في بيت المقدس،
جرت هناك أحداث تمثل علامات بارزة في تاريخ المدينة المقدسة، ففي بداية الاحتلال
الروماني قام اليهود بثورة واضطرابات عديدة ضد الغزاة، فقاد الحملة عليهم حاكم
سوريا الروماني "لوقيانوس كراسوس"، الذي دخل المعبد ونهبه.


والغريب أن القائد هيرود الآدومي الذي قاد
حملة قاسية ضد اليهود قبل ميلاد المسيح بحوالي أربعين عاما، عاد ليعطي اليهود نوعا
من الحرية الدينية، وسمح لهم بإعادة بناء بيت عبادتهم. وأثناء ولايته على القدس
والجليل اهتم هيرود بإعادة تخطيط المدينة، ودعّم حصونها، وزودها بأبراج الحراسة،
خاصة في الغرب والشمال الغربي، تأمينا للمواقع الضعيفة منها.


وكان هيرود قد غزا المدينة، منتهزا فرصة
تنازع الأمراء المكابيين اليهود على ما تبقى لهم من سلطة عشائرية تخص الطائفة
اليهودية، مثل: تحصيل الزكاة، والقضاء بينهم، وتنفيذ أحكام التوراة
فيهم.


وبقى من العلامات البارزة في التاريخ
الروماني لبيت المقدس أيضا: مولد المسيح عليه السلام، وطرد اليهود من بيت المقدس
على يد تيطس ثم هرقل، واتخاذ المسيحية بتفسيرها الخاص ديانةً رسمية للدولة
الرومانية، وإعادة بناء بيت المقدس على الطريقة الرومانية حاملة اسمها الجديد
إيلياء.


مولد المسيح في ظلال الحكم
الروماني:


مثّل عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ الفرصة
الأخيرة أمام بني إسرائيل للعودة إلى الله ـ تعالى ـ وترك المعاصي التي أَورثتْهم
الذلَّ، وأوقعتْهم ـ بصورة متكررة ـ فريسة منتهكة بين أظافر أمم مختلفة وأنياب شعوب
متباينة.


وقد جاء ميلاد هذا النبي الكريم في بيت لحم
التابعة لبيت المقدس، معلنا عن واحدة من المعجزات المؤيدة له، والمؤكدة لصدقه، حتى
قبل أن يستغني عن ثدي أمه الطاهرة، فوُلد ـ عليه السلام ـ من أم عذراء لم يمسسْها
بشر، وتكلم في المهد مثبتًا المعجزة الظاهرة القاهرة.


وبدلا من أن يكون إرسال هذا النبي الكريم
فرصة يستغلها بنو إسرائيل للخروج من الاستعباد الروماني، بالانقياد لأوامر النبي
وطاعته ـ إذا بهم يقفون في الصفوف الأولى التي تحارب عيسى ـ عليه السلام ـ وتسعى
إلى قتله، كما قتلوا كثيرًا من الأنبياء السالفين، وتعاونوا في تلك المحاولة الآثمة
مع السلطة الرومانية القائمة، خشية أن ينتزع عيسى ـ عليه السلام ـ شرفَ السلطة
الدينية من يد الكهنة اليهود. وكان القيصر في هذه الفترة هو: كلوديوس، ووالي بيت
المقدس الرومي هو: بيلاطس.


ومع أن الله ـ تعالى ـ قد نجَّى نبيه الكريم
من المؤامرة الدنيئة، إلا أن الفرصة لم تتكرر بهذه الصورة أمام بني إسرائيل للخروج
الكريم من الاستعباد والاضطهاد، خاصة مع الاضطهاد الكبير الذي تعرض له أتباع عيسى ـ
عليه السلام ـ بعد أن رفعه الله إليه.


وبقي المسيح ـ عليه السلام ـ أحدَ أهم
الشخصيات المرتبطة بالمدينة المقدسة، خاصة أنه خاتمة أنبياء بني إسرائيل، وليس بينه
وبين رسول الله محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ رسولٌ ولا نبي.


الرومان وطرد اليهود من بيت
المقدس:


صَبَّتْ أحداث الزمن الروماني في بيت المقدس
في اتجاه تفريغ المدينة من اليهود، حتى جاء الفتح الإسلامي للمدينة وليس فيها
يهودي. ومن المناسبات الكبيرة التي طُرد فيها اليهود من بيت المقدس ما جرى عام
سبعين من الميلاد على يد الحاكم الرومي القوي تيطس، الذي دمر المدينة. ثم طُرد
اليهود بالكامل منها سنة خمس وثلاثين ومائة من الميلاد.


وحينما أقبلت جحافل الفرس في القرن السابع
الميلادي من المشرق، تزحف على ممتلكات الروم البيزنطيين، استولوا على بيت المقدس
ضمن ما استولوا عليه، ووقف اليهود حينئذ بجانبهم، وشاركوهم في التنكيل بالرومان.
وحين نجح هرقل في دحر الفرس عند نينوى، وأجلاهم عما احتلوه، وأزاحهم عن بيت المقدس،
كان لابد له أن يصفِّي الحساب مع اليهود، ونفَّذ ذلك بصورة قاسية، حيث قتل من
اليهود أعدادًا كبيرة، وفرَّ كثيرون تحت سِيَاطِ الاضطهاد والتنكيل، وصارت بيت
المقدس خالية من اليهود تماما.


وهكذا نتج عن السحق المتكرر لليهود باليدِ
الرومانية الباطشة، تدمير المدينة على يد القياصرة، وأجليت عنها أعداد كبيرة من
اليهود، ونُكّل بالكثير منهم، وجرى لهم شتات عام، وضعفت البنية السكانية اليهودية
في عموم أرض فلسطين بسبب كثرة القتلى والفارين من وجه الرومان.


وقد حرص أهل بيت المقدس عند الفتح الإسلامي
لها على اشتراط أن لا يدخل اليهود المدينة المقدسة، حينما صالحوا أمير المؤمنين عمر
بن الخطاب على تسليم المدينة المباركة للمسلمين عام ستة عشر من الهجرة
النبوية.


تَنَصّر الدولة الرومانية وتأثيره في بيت
المقدس:


لم يُتَحْ لدعوة المسيح ـ عليه السلام ـ
أنصار كثيرون في الفترة التي قضاها على الأرض قبل سعي اليهود والرومان إلى قتله،
وإنْجاء الله ـ تعالى ـ له. إلا أنه بعد هذا الحادث بما يزيد على قرنين ونصف من
الزمان، قامت دولة كبرى بإعلان اتباعها لدين المسيح، وإن كان ذلك بتفسير خاص لرسالة
المسيح ـ عليه السلام ـ وتلك هي الدولة الرومانية نفسها، التي أعلن إمبراطورها
قسطنطين عام ثلاثة عشر وثلاثمائة من الميلاد أن المسيحية هي الديانة الرسمية
لدولته، حسب التفسير الذي جاء به شاول المشهور ببولس الرسول.


وقد كان لهذا الحدث تأثير كبير في مجرى تاريخ
مدينة القدس، فلأول مرة أصبحت تحت سلطة تعلن إيمانها بصدق المسيح ـ حسب الصورة التي
يعتقدونها ـ وقد كان وجود هذه السلطة إذنًا بعقاب أصحاب الأديان والعقائد التي
اضطهدت المسيحيين الأوائل، فتتابع طرد اليهود من بيت المقدس.


كما زارت الإمبراطورة "هيلانة" والدة
قسطنطين، بيت المقدس، بعد ثلاثة وعشرين عامًا من إعلانه الديانة الجديدة لدولته،
وتفقدت المواضع التي شهدت دعوة المسيح ـ عليه السلام ـ وأقامت كنيسة القيامة
الشهيرة في الموضع الذي يعتقدون أن المسيح دُفن فيه.


البناء الروماني لبيت
المقدس:


"إيليوس أدريانوس" أو "هادريانوس".. هذا هو
الإمبراطور الروماني الكبير ـ ويُوصف بأنه "كان من أقدر الرجال الذين شغلوا منصب
الإمبراطور على مر التاريخ" ـ الذي ارتبط اسمه ببناء مدينة بيت المقدس، وتشييدها
على الطراز الروماني، ففي عام اثنين وثلاثين ومائة للميلاد ضيق الإمبراطور على
اليهود، ومنعهم من تأدية بعض طقوسهم العبادية في بيت المقدس، فثاروا ضده، ونجحوا في
السيطرة على المدينة المقدسة ثلاث سنوات، إلا أن الإمبراطور جرد حملة قوية لإخضاع
المدينة، فاستولى الرومان على خمسين قلعة، ودمروا قرابة ألف قرية، وقتلوا عددًا
كبيرًا من اليهود، "أما مَنْ لاقَوْا حَتْفَهُمْ جوعًا، أو بالطاعون، أو في
الحدائق، فلا يستطيع أحد أن يُحْصِيَهُمْ ـ كما يقول بعض المؤرخين ـ وهكذا خُرِّبت
يهوذا تقريبًا"، وصارت قرية مدمرة.


وأصبحت القدس محظورة "الدخول على مَنْ بقي من
اليهود بعد الحرب، وشتت الرومان من بقي منهم فوق جبل صهيون، ولم تعد هناك جماعات
يهودية في ضواحي المدينة".


لقد كان اعتزام أدريانوس عام مائة وثلاثين
إنشاء مدينة جديدة فوق أطلال القدس، هو السبب الرئيسي الذي دعا اليهود إلى الثورة
عليه، إذ كان إنشاء هذه المدينة يعني إنشاء معابد وثنية، وتمجيد معتقدات الإمبراطور
في المدينة المقدسة.


وبعد أن تخلص أدريانوس من المعارضة اليهودية
لمشروع مدينته، عهد إلى روفوس تيمايوس بإنشاء مدينته الجديدة، التي أسماها إيليا
كابيتولينا، لتحمل اسمه، وتكرم معبوداته الوثنية في الكابيتول في روما، اعتقادًا
منه أنهم سيَرْعَوْنَها له.


وعند التنفيذ قام العاملون بفلح أرض المدينة
وإعدادها للبناء، وأقيمت مدينة حديثة، فيها معابد ومسرح، وتجمعات سكنية، وبِركة
مياه، وسوقان.


القدس في صدر الإسلام:

ما من صفحات في تاريخ القدس الشريف أنصع ولا
أبهى من تلك التي كانت في عهد الرسالة المحمدية؛ إذْ جاء الارتباط فيها بين خاتم
رسل الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين واحدة من البقاع الطاهرة التي باركها الله
وبارك ما حولها..


وأُولى الصفحات المحمدية للقدس تمثلت في
معجزة الإسراء والمعراج، والثانية في توجهه ومن معه من المسلمين في صلاتهم إلى بيت
المقدس..


ومنذ البدء لم يكن المسلمون يبحثون عن حرب
تراق فيها الدماء، بل كانوا يفتشون عن قلوب تستجيب للنداء الرفيق الرحيم الذي
يقودها إلى الله، لذا حزن المؤمنون في مكة لِمَا أصاب الروم من هزيمة مؤلمة أمام
الفرس، ضاع فيها بيت المقدس من يد الروم وسقط في يد المجوس، وتفاعل أتباع النبي
الخاتم ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع القرآن وهو يبشر بانتصار الروم من جديد، مما يعني
استرجاع الرومان بيت المقدس..


وتطلع رسول الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ
إلى أن تصير القدس وغيرها في حوزة أهل الإيمان، مهما تكن جنسيتهم وألوانهم، فكتب
إلى هرقل "عظيم الروم" يدعوه وقومه إلى الإسلام، لا لينزع منهم ملكهم، ولكن ليدلهم
على ما يجمع لهم خير الدنيا والآخرة..


وشاءت المقادير الإلهية أن تكون الحماقة سببا
لإثارة الحرب بين المسلمين والروم، فقد قتل أتباع أمير غسان المُوَالي للروم حاملَ
كتاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه، فوقعت الحرب في مؤتة وتبوك حيث بشر
النبي بفتح بيت المقدس. وفي آخر عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالدنيا أمر بتجهيز
جيش كبير جعل القيادة فيه لأسامة بن زيد ليغزو أطراف الشام، وحين دنا الرحيل
النبويّ عن الدنيا لم يكن الجيش قد خرج لمهمته، فأوصى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
بإنفاذ بعث أسامة.


وكان أول أعمال الصديق أبي بكر في خلافته
إنفاذ هذا البعث، على الرغم من فتنة المرتدّين الخطيرة التي هددت المدينةَ نفسَها،
بل هددت كيان الإسلام كلَّه.


وبعد إخماد نار الردة تفرغ المسلمون للفتح،
وإفساح الطريق أمام الإسلام ومبادئه، لتسمع الدنيا صوته، وليعرف الخلق سموه وعلوّه،
فأرسل أبو بكر جيوش الفتح والغزو..


ولم يكن المسلمون أبدا بادئين بالاعتداء، بل
سبقهم الفرس إلى ذلك بتأييد حركات الردة والتمرد في جزيرة العرب، وسبقهم الروم
حينما قتلوا السفير الذي بعثه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى حاكم بُصرى التابع
لهم.. ودخل المسلمون في جولات حربية حاسمة مع الفرس والروم، على رأسها اليرموك
وأجْنَادِين والقادسية ونهاوند..


واختُصَّت أجنادين كفاتح للطريق إلى بيت
المقدس، حيث انهارت الدفاعات الرومانية أمام بسالة المسلمين، وصارت لآلئ فلسطين في
أيديهم، وتيسَّر حصار الروم في إيلياء أو بيت المقدس، وتلا ذلك الصلح التاريخي الذي
أجراه عمر بن الخطاب مع سكان المدينة سنة ست عشرة من الهجرة، وجاءت الوثيقة
العُمَريّة لأهل بيت المقدس مجسِّدةً لمبدأ الرحمة والوفاء، ومُقِرَّة بمبدأ حرية
الاعتقاد.


وكان الفاروق عمر، وهو يسير نحو بيت المقدس
ويتسلم مفاتيحها، كعادته نموذجًا للزهد والتواضع والسماحة والرحمة..


الإسراء والارتباط ببيت
المقدس:


بينما تُظِلُّ الناسَ السنةُ العاشرة لبعثة
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي رحلة ليلية غيرِ متقيدة بقوانين الزمان والمكان،
أسرى الله سبحانه بخاتم رسله، من البقاع الطاهرة إلى الأرض المباركة، من مكة إلى
بيت المقدس، لتتحدد هُويّة هذا الدين بصورة كاملة قبل أن تصبح للإسلام دولة،
وليتحدد أيضا نوع الارتباط بين المسلمين وبين بيت المقدس:


أما هوية هذا الدين، فقد تحددت أهم ملامحها
وأعمها حين وقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ أيام دعوته الأولى، يدعو إلى ملة
إبراهيم حنيفا، ويتمسك باحترام البيت الحرام وإجلاله، وإبراهيمية الرسالة المحمدية
دعوة إلى التجمع حول الراية التي رفعها الخليل إبراهيم قبل الميلاد بحوالي ألفي
سنة، وتابعه عليها الأنبياء من بعده، خاصة موسى وعيسى ومحمدا ـ عليهم الصلاة
والسلام.


واكتمل تحديد هذه الهُوِيَّة بصورة عملية في
رحلة الإسراء والمعراج، حين ظهر الولاء بين الأنبياء، وتصديق كلٍّ بصدق الآخر،
وتسليمهم بتقديم خاتم الرسل على أنفسهم، وأنه مواصل لطريق الدعوة الذي سلكوه. لقد
أعلنت الرحلة أنه مسلم وأنهم مسلمون، لتُجسِّد ذلك المعنى القرآني العام، الذي يؤكد
أن الرسول محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلة لمن سبقه من الأنبياء، وشبيه بهم فيما
يعتقد ويؤمن به، وإن كان لا نبي بعده.


وأما نوع الارتباط بين المسلمين وبين القدس،
فقد حددت الرحلة أنه ارتباط عقيدة، إذ جمع الواحد الأحد بين الصفوة المختارة من
الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ليُصَلُّوا خلف خاتمهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يعني
وراثته لعقيدة التوحيد السماوية، مرتبطة بالموطن الذي شهد أكبر حشد من رسل الله
السابقين عليه.


وأعلنت هذه الوراثة المباركة عن إحدى خصائص
الرسالة المحمدية، وهو شمولها للزمان كله، وعمومها للأمم كلها، فكل الرسل صلوا
خلفه، إعلانا منهم عن إيمانهم برسالته وصدق نبوّته، وأن أتباعهم تشملهم رسالته إلى
يوم الدين، كما شملت الأنبياء صلاته وإمامته.


القدس والمعراج:

رحلة المعراج كانت سفرا إلى عوالم تَلْبس
الطُّهْرَ، وترتدي أثواب القداسة، وجرت فيها لقاءات للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
بالملائكة والأنبياء، بل كلم النبيُّ الكريم ربَّه، وتلقَّى منه فرض الصلاة مباشرة،
وانتهى المقام برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند سدرة المنتهى، وهو موضع أرفع
من السماء السابعة...


ورحلة بهذا المقام لابد أن تكون البدايةُ
الأرضية لها كريمة شريفة، وقد شاء الله ـ تعالى ـ أن تكون مدينة بيت المقدس هي موضع
هذه البداية، حيث عُرج برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من فوق صخرة المعراج إلى
السموات العلا..


إن الفترة التي يقضيها الإنسان فوق هذه
الأرض، أشبه ما تكون برحلة الإسراء في اشتمالها على عمل واختيار بين اللبن والخمر؛
(أو الهداية والضلالة). وأما المعراج، فقد مثل بيانا للطريقة التي بها تكون المسيرة
الفردية والجماعية صحيحة، وهي الارتفاع فوق طين الأرض، والترفُّع عن المعصية، وعدم
الانقطاع عن هَدْي السماء.


وعلاقة بيت المقدس بذلك، أن أهل المسجد
الحرام أتباعَ نبي الإسراء، هم أيضا أهل المسجد الأقصى وبيت المقدس، وسبيلهم إلى
الفلاح في دار الدنيا ودار الآخرة، هو ألا ينقطعوا عن هَدْي السماء الذي أرسل الله
به رسوله.


كتاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى
هرقل:


من خصائص دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
أنه أُرسل إلى الناس كافة، وقد مثلت الكتب التي بعث بها ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى
الملوك والقادة في عصره، تجليا واضحا لهذه الخصيصة؛ فقد تخطى الجغرافيا بكل
أنواعها، وكتب إلى كسرى وقيصر وملوك اليمن وعمان ومصر وغيرها، يدعوهم إلى
الإسلام..


وقد أقبل دِحْيةُ بنُ خليفةَ من المدينة نحو
الشام، يحمل كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل قيصر الروم، في وقت كان
فيه الرومان في قمة النشوة لانتصارهم الكبير على الفرس، واستعادتهم الممتلكات
الاستعماريةَ التي سلبها منهم عدوهم المجوسي، وعلى رأسها بيت المقدس، الذي نذر هرقل
أن يسير إليه من حمص سيرا على قدميه، حيث أقام احتفالاتٍ صاخبةً بالنصر الكبير.


وشق الصحراءَ نفسَها الحارث بن عمير
الأزْدِيّ، يحمل كتاب الدعوة من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أمير بُصْرَى
؛ حليف الروم وخادمهم.


أما هرقل، فمع تأثره بالكتاب، فإنه كان يجيد
أعمال السياسة، فرد على كتاب رسول الله ردًا ليّنا، في حين غَلبت الجلافة الآخرين،
فقَتل أعرابيٌّ من غَسَّانَ رسولَ المسلمين إلى أمير بُصْرَى، قتله باسم
هرقلَ.


وارتفعت دماء الحماقة إلى رأس أمير بُصْرَى،
فبعث إلى هرقلَ يستأذنه في غَزْوِ المدينة المنوَّرة، إلا أن هرقلَ رغب في ألا
يعكِّر كؤوس احتفاله بالانتصار على الفرس أيُّ شيء، وفضَّل أن يكون أمير بصرى من
الخدم الحاضرين معه احتفالَ الروم في بيت المقدس باسترجاع الصليب الأكبر من
الفرس.


استبشار المسلمين بانتصار الروم على
الفرس:


كان الصراع الدموي بين الفرس والروم أهم معلم
دُوَليٍّ يميز دنيا الناس إبان البعثة النبوية الشريفة، فقد نشأ بينهما صراعٌ مميتٌ
وتنافسٌ مهلكٌ، كانت الضحايا فيه تُعَدُّ بمئات الآلاف من البشر لا بعشرات الآلاف،
هذا غير المدن التي خُرِّبَتْ والقصور والقلاع والحصون التي
هُدِّمَتْ..


وقد علت يد الفرس على الروم في بدايات بعثة
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحققوا انتصارات متتالية عليهم: عند أَنْطَاكية سنة
ستمائة وثلاث عشرة من الميلاد، وسيطروا على فِلَسْطِين، وبيت المقدس سنة ستمائة وست
عشرة من الميلاد، وامتد جبروتهم حتى خضعت لهم الإسكندرية سنة ستمائة وسبع عشرة من
الميلاد. وتجاوب مشركو مكة مع الأحداث، وفرحوا لانتصار الوثنية على أهل الكتاب،
ورأوا في ذلك صورة مبكرةً للصراع بينهم وبين الإسلام، وأن النهاية في الحالين ستكون
واحدة: انتصار الوثنية وارتفاع شأن الأصنام، وخمود صوتِ الرسل...!


وخرج هرقلُ القيصرُ الرومي الجديدُ ليكافح في
سبيل إعادة المجد البيزنطب من جديد، فظل ينظِّم دولته ويقوي جيشه المنهار، ويكافح
الفرس حتى ألحق بهم هزيمة ساحقة قرب نينوى سنة ثلاث وعشرين وستمائة، فقصم ظهورَهم،
واسترد منهم أرض الدولة البيزنطية في أرْمينِيَّة والشام وفلسطين ومصر، واستعاد
منهم بيت المقدس سنة ثلاثين وستمائة من الميلاد. وقد فرح المسلمون لهذا النصر الذي
وافق انتصارهم على كفار قريش يوم بدر.


وكان ذلك تحقيقا لما نزل به القرآن، قبل أن
يتحقق بسبع سنين، في قول الله ـ تعالى: (الم. غُلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من
بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون.
بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم).


غزوة مؤتة:

تقع مؤتة الآن داخل حدود المملكة الأردنية
الهاشمية، مما يعني أن الغزوة التي دارت فيها بين المسلمين وبين الروم وحلفائهم من
القبائل العربية، كانت على مقربة من بيت المقدس.


‏اتجهت جموع جيش المسلمين في غزوة مؤتة إلى
الجزء الملاصق للجزيرة العربية من أرض الشام، أي إلى الطريق الممتد إلى فلسطين التي
فيها بيت المقدس. وتعداد المسلمين المتجهزين للقتال يومئذ ثلاثة آلاف، يقودهم زيد
بن حارثة، وخليفته إن قتل جعفر بن أبي طالب، فإن قُتل تلى على المسلمين عبد الله بن
رواحة، فإن قُتل عبد الله اختار المسلمون قائدا منهم.


‏وكانت دماء زيد بن حارثة حِبِّ رسول الله ـ
صلى الله عليه وسلم ـ وجعفر بن أبي طالب ابن عمه، وعبد الله بن رواحة أحد شعرائه
وأنصاره ـ كانت أولَ دماء طاهرة روت الأرض في الطريق إلى القدس، في مواجهة مع الروم
غير متكافئة في العدد ولا العُدة، إذ حشدوا من مقاتليهمعشرات الآلاف من الجنود
والمرتزقة العرب في مواجهة ثلاثة آلاف من المسلمين.


ثم أخذ الراية سيف الله خالد بن الوليد، الذي
سيواصل فيما بعد المشاركة الإيجابية في سبيل بسط سلطان الإسلام على الشام والقدس..
ظهرت مهارة خالد في مؤتة في المناورة وحسن تحريك الجيش وتحويل الدفّة؛ فقد أحدث
ضجيجًا وصخبًا وهو يحرك قطع جيشه، ويبادل بين مواضعها، فتوهم الروم أن إمدادات
كبيرة قد جاءت أرض المعركة، فراحوا يعيدون توزيع جيشهم. وبينما هم مشغولون في ذلك
رجع خالد بجيشه إلى المدينة..


ومع أن المسلمين في المدينة صاحوا في وجه
خالد وجنوده: يا فُرّار .. فررتم من أعداء الله. إلا أن الرسول ـ صلى الله عليه
وسلم ـ نفى عنهم التهمة، وطيب خاطرهم وقال: "ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار بإذن
الله" ـ أي أنهم عائدون إلى الجهاد من جديد.


وهي كلمة تُنْبِئ عن أنه ـ صلى الله عليه
وسلم ـ سيستأنف الجهاد في هذه النواحي عما قليل. و


غزوة تبوك:

في العام التاسع للهجرة سعى النبي ـ صلى الله
عليه وسلم ـ إلى إعداد جيش يتجه به إلى الشام، وندب المسلمين للمشاركة فيه بالنفس
والمال، فتطوع عدد كبير منهم، خاصة أنه أعلن أنه سيخرج بنفسه. وكان تعدادهم ثلاثين
ألفا، أي عشرة أضعاف من حاربوا في مؤتة.


كان ذلك يعني للمسلمين سفرا بعيدا، في ظروف
الحر الشديد، ووقت انتظار الثمار، وفي مواجهة عدو ذي بأس شديد.


وبعد وصولهم إلى تبوك عسكر المسلمون هناك
عشرين يومًا، لم يخرج خلالها جيش الروم لمواجهتهم أو صدهم، ويبدو أنهم أرادوا
استدراجهم إلى الداخل.. غير أن المسلمين لم يتوغلوا إلى الداخل، وتركوا الروم
يحسبون حساباتهم الخاطئة. واستشعرت القبائل العربية المحالفة للروم أنها تقف في
المواجهة بمفردها، فأسرع يوحنة بن رؤبة أمير أيلة، فوفد على رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ وصالحه وأعطى الجزية للمسلمين، وكتب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
كتاب أمان له ولقومه. وكذلك فعل أهل جرباء وأهل أذرح، وانتظر أكيدر دُومة الجندل
حتى جاء به خالد بن الوليد أسيرا بين يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحقن
دمه وصالحه.


وأهم ما تبينه المسلمون في هذه الغزوة هو أن
بلاد الشام ينبغي ألا تغيب عن أنظارهم، كما تبينوا أن نصارى الشام من العرب في حاجة
إلى من يخلصهم من حكم الرومان، وأن المسلمين لو جاءوا يومًا يفتحون الشام فسيجدون
ترحيبًا من أهلها، وهذا ما بدا واضحًا بصورة جلية عند الفتح العمري للقدس في غضون
سنوات معدودة، وهو الفتح الذي بشر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه الغزوة
المباركة.


إنفاذُ بعثِ أسامةَ بنِ
زيدٍ:


‏ رأى رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في
زيد بنِ حارثةَ وابنِه أسامةَ إيمانا وفروسية وحبا لله ورسوله، يجعلهما جديرَيْنِ
بالقيادة، ولو كان أسامةُ شابا صغيرا لم يجاوز سبع عشرة سنة، وفي جيشه مَنْ هو
أسَنُّ منه.. وقد نال زيد الشهادة عند مواجهة الروم في مُؤْتَةَ، وها هو ابنه أسامة
يواصل مسيرة والده، في غير جبن ولا تردد، ويستعد ليواجه الروم وحلفاءهم من جديد على
أعتاب السنة الحادية عشرة للهجرة.


أراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتجهيز
جيش أسامة أن يؤمّن المسلمين من أي عدوان يأتيهم من الشمال، وأن يُلْقِي الهيبة منه
ومن المسلمين في قلوب القبائل العربية المتاخمة لحدود الدولة
الرومانية.


لكن المرض أصاب الجسد النبوي الطاهر، وراح
يشتد به، فتوقف الجيش المجاهد خارج المدينة انتظارا للإذن بالانطلاق، إلا أن مشيئة
الله أرادت غير ذلك، فصَعِدَتْ روح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بارئها في
ربيع الأول من العام الهجري الحادي عشر، لكن بقيت وصيته لمَن بعده أن يُنْفِذ جيش
أسامة.


وكان تنفيذ هذه الوصية أول ما شغل أبا بكر
بعد توليه الخلافة، بالرغم من الأخطار الهائلة التي واجهها بسبب
الردة.


خرج الخليفة أبو بكر يودع القائد الشاب أسامة
بن زيد وجندَه، وزوَّده بوصاياه، وأمره بأن ينفّذ أوامر رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ قائلا له: "ابدأ ببلاد قضاعة، ثم ائت آبل، ولا تقصّر في شيء من أمر رسول
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا تعجلن…".


فسار الجيش متجهًا إلى المنطقة التي حددها
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عشرين يومًا، يقطع الصحراء الملتهبة بحرارة الشمس في
يونيو، حتى بلغوا مؤتة حيث استشهد زيد بن حارثة وأصحابه.. وهناك صلى أسامة، ثم دعا
لوالده الشهيد ومن استشهد معه، ثم بث خيوله في صفوفٍ مُواجِهةٍ للأعداء، ومضى هو
وجنده إلى الأمام حتى بلغوا الهدف الذي حدده لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكده
لهم خليفتُه، فوطئت خيولهم البلقاء والداروم، فلما تمَّ له ما أراد لم يتجاوز الهدف
المحدد، ولم يفتنه الغرور أو يستدرجه إلى ملاقاة جيش الروم، وإنما عاد بجيشه سالمًا
مظفرًا إلى المدينة المنورة حيث تلقاه الخليفة بالتحية والإكبار.


وكانت هذه ثالث حملة بعد مؤتة وتبوك في
الطريق إلى القدس الشريف، فعَرف المسلمون الطريق جيدًا، وعَرفوا مَنْ فيه من
الأعداء ومدى قوتِهم.. وهكذا وصل الإسلام قريبًا من فلسطين دينًا حيويًا في زهرة
حماسه الأول. وفي المقابل كان الإمبراطور البيزنطي هرقل قد تسبب في اغتراب كثير من
رعاياه في فلسطين، وكان مكتئبًا يعاني أزمةً روحية، ومن ثم فقد خَشِيَ أن يكون
الفتحُ الإسلامي علامةً على غضب الله عليه!!


جيش أبي بكر لفتح فلسطين:

لما أقبلت العرب على أبي بكر من كل حَدَبٍ
وصَوْبٍ تريد الخروج للجهاد في الشام، جمعهم تحت قيادة ذوي الدين والكفاية، ووزعهم
على أربعة جيوش، على كل واحد منها أميرٌ قوي أمينٌ، فأبو عبيدةَ أمينُ الأمةِ على
جيش، وعمرو بن العاص القائدُ العبقري على جيش، وشُرَحْبِيلُ بن حَسَنةَ الأميرُ
التَّقِي على جيش، ويزيدُ بنُ أبي سفيانَ القائدُ الصُّلْبُ على
جيش...


وأراد أبو بكر بهذا التقسيم أن ينفرد كل واحد
من هؤلاء الأمراء بفتح ناحية من نواحي الشام، فكان فتح فلسطين والقدس من نصيب عمرو
بن العاص وجيشه..


وزود الخليفةُ عَمْرًا بوصاياه، قال له: "إذا
سرت بجيشك فلا تسر في الطريق التي سار فيها يزيد وشرحبيل، بل اسلك طريق إيلياء
(القدس)، حتى تنتهي إلى أرض فلسطين، وابعث عيونك يأتونك بأخبار أبي عبيدة، فإن كان
ظافرا بعدوه فكن أنت لقتال مَن في فلسطين، وإن كان يريد عسكرا فأنفذ إليه جيشا في
أثر جيش..".


ولأداء هذا المهمة الصعبة، خرج عمرو من
المدينة ومعه ثلاثة آلاف جندي، فيهم كثير من المهاجرين والأنصار، وظل أبو بكر
يُتْبِعُه بالأمداد حتى بلغوا سبعة آلاف وخَمْسَمائة جندي. كما أمَّره الخليفة على
من يتطوع معه من قبائل بَلِيّ وعُذرة وسائر قُضاعةَ وما جاورها. وسلك عمرو بجيشه
طريق الساحل، مارا على أيْلةَ (أو العقبة)، فالبحر الميت.


والحقيقة أن استراتيجية القتال في الشام فرضت
على المسلمين أن يجتمعوا لعدوهم عند حاجتهم إلى الاجتماع، كما جرى في اليرموك وفِحل
وفتح دمشق، وانفرد كل قائد بالمهمة الخاصة به حين استغنى عن قوات زائدة على ما
معه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alkaram.forumarabia.com
الكرم
المدير
المدير
الكرم


عدد المساهمات : 476
تاريخ التسجيل : 21/10/2009
العمر : 33
الموقع : alkaram.forumarabia.com

تاريــخ فلسطين Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريــخ فلسطين   تاريــخ فلسطين Emptyالخميس يوليو 29, 2010 2:35 pm

معركة اليرموك:

رتبت الأقدار موعدَها، واختارت ساحتَها،
وموقعَها، تلك المعركة الأم في صراع المسلمين مع الروم، وحقا لم تكن صراعا على
مدينة عتيقة كدمشقَ أو بيت المقدس، إلا أنها شهدت حشودا عظيمة من الفريقين،
والمنتصر اليوم سيكون الأقربَ للاستيلاء على مدن الشام ووديانها وحواضرها.


اجتمع الرومان ونزلوا الواقوصة على ضفاف نهر
اليرموك، وعسكر المسلمون بمحاذاتهم في انتظار قواتِ خالد بن الوليد القادمة من
العراق، وبوصولها بدأ خالد ينظم جيشه، ويوزع الأدوار على رجاله، ولم يستعجل
الاصطدام بالعدو عند بدء رؤيتهم في ساحة القتال، بل راح يعدِّل في خطته لتتواءم مع
ما رأى من قوات العدو، فوزع خيلَه فرقتين لتأخذَ الرومَ من ظهورها إن اشتد ضغطُها
على المسلمين... وفي وسط هذا الزحام واللقاء المرتقب لم ينس المسلمون التوجُّهَ إلى
الروم بدعوتهم إلى دين الله، وتركِ ما هم عليه من الضلال، لكن القلوب كانت في أغلفة
من الغفلة والغرور.


وراح عكرمةُ بن أبي جهل والقَعْقَاعُ بن عمرو
يشعلان فتيلَ الحرب، فاشتد القتال، وارتفع لهيب الصراع، ما بين تقدمٍ وتراجعٍ، حتى
نجحت خيل خالد بن الوليد في تمزيق شمل الروم والدخول بين صفوفهم..


واستمرت الحرب حتى أعطت السيوف والجنود كل ما
لديهم، وتحقق للمسلمين نصر مبين، وذلك في جمادى الآخرة من السنة الثالثة عشرة
للهجرة النبوية.


والمعنى المباشر لهذا النصر، هو أن جزءا
كبيرا من قوة الروم قد انهدم، مما يقرب أكثر من تحقيق البشارة، ودخول المسلمين بيتَ
المقدس المبارك.


فتح فِلَسْطِين:

معركة " أَجْنادِين" من الجولات الحربية
الكبرى للمسلمين في الشام، إذ آذنت بغروب شمس الروم عن البلاد، وإشراق شمس المسلمين
فوق رُبَاهَا وفى مدنها وعلى شواطئها وبَوادِيهَا، وهي من معارك الفتح في فلسطين،
الذي كان مهمة عمرو بن العاص وجيشه.


وقد كانت الذاكرة الإسلامية عند التحرك جهة
فلسطين وقلبها القدس، تحمل الميراث القرآني العظيم عن هذه المنطقة، التي باركها
الله، وجعلها مقصدا للأنبياء، وآخي في القداسة بينها وبين المسجد الحرام، وجعلها
الموقع المختار الذي انتهت عنده رحلة الإسراء وابتدأت منه رحلة المعراج.. ولا شك أن
نفس المسلم حين تُقْبل على الفتح بهذه الروح ستكون الهيبة ثيابا تزينها، ولن يكون
دخول المدينة قتلا ولا نهبا، ولا إفسادا في أرض الله، كما فعلت أمم شتى قبل ذلك
وبعده.


وقد جرت معارك الفتح في فِلَسْطِين صراعا بين
رأسَيْن كبيريْن في عالم الدهاء، هما عمرو بن العاص والأمير الروماني الأَرْطِبون،
وانتهت وقائعه بانتصار عمرو بن العاص وجنوده.


كما كانت هذه المعارك صراعا على بلاد امتلأت
بالقداسة، وزاحم هواءَها عبيرُ النبوة التي عاشت هنا من قبل..


خاض عمرو بن العاص ضد الروم معركة
أَجْنَادِين الشرسة، وفتح النصرُ فيها الطريق أمامه إلى بيت المقدس، فبدأ أولا بما
حولها من المدن ليمنع عنها المددَ والمساعدة. وبعد حصار طويل انسحب الرومان من
القدس، وسلَّم أهلُ المدينة، وطلبوا الصلحَ على أن يأتي أمير المؤمنين عمر بنفسه
ليتسلم مفاتيحَها. وفي الجابيةِ التقى عمر بن الخطاب مع قادته في الشام، فتلقَّوْه
بالاحترام والإجلال، ثم تسلم مفاتيح بيت المقدس من الأساقفة، وقام ومعه المسلمون
بتنظيف الحرم الشريف، وأقام هناك مسجدًا.


وكلف أمير المؤمنين القائدَ معاويةَ بن أبي
سفيان بفتح قَيْسَارِيَّةَ وعَسْقَلانَ، ليكتمل فتح فلسطين حتى الشواطئ الغربية
المالحة.


معركة أَجْنَادِين:

وصل عمرو بن العاص بجيشه إلى أجنادين، فوجد
القائد الرومي أَرْطِبونَ مرابطا بقواته هناك قد قسَّم جندَه ونظم عساكره، ووضع
جندا كثيفا لحماية القدس، وآخر لحماية الرملة، فقطع عمرو طرق المساعدة الرومانية عن
الأرطبون، وأرسل قوة لمشاغلة حامية الروم في الرملة، وقوة أخرى لمشاغلة حاميتهم في
القدس، وأقام المسلمون في أَجْنَادِين يأتيهم المددُ، ولا يأتي
عدوهم.


لكن عَمْرًا لم يجد لخَصْمِه ثغرة، ولم يعرف
له خطة، فبعث بالرسل بينه وبينهم لعلهم يكشفون من الروم عن شيء مفيد، أو يطَّلِعون
على خططِهم وترتيباتهم للحرب.


لقد أدرك عمرو جيدا أن معرفة العدو شيء ضروري
للانتصار عليه، لكن الرسل الذين بعث بهم إلى قائد الروم لم يسعفوه بشيء، فقرر أن
يخوض المغامرة بنفسه، وذهب إلى أَرْطِبُون في عرينه متخفيا في صورة رسول من
المسلمين، ودخل عليه وكلَّمه، وعرف مداخلَه ومخارجَه، وأوقع قائدَ الروم في حبائل
دهائه الرهيبة، إذ حاول القائد أن يقتله لِمَا رأى من ذكائه، وشكَّ في أنه قد يكون
عمرا نفسه، وأدرك القائد المسلم ما يدبر له فوعد أرطبون بأن يزوره مرة أخرى ومعه
أمثاله من أبناء عمومته من العرب، فطمع قائد الروم في غنيمة أكبر..


لكن عودة عمرو لم تكن سارة للقائد الرومي، إذ
أقبل بجيشه وقواته، مما كان إيذانا ببدء قتال حام في أَجْنَادِين، كان الناس وقودا
سهلا له، ولكن دون أن تميل الكِفَّة إلى أي من الجانبين..


ويمر الوقت ويدُ كلِّ فريق بين أسنان الآخر،
فكان المسلمون أكثرَ صبرا، كما قوَّت انتصارات إخوانهم في مدن سوريا من عزائمهم
ومعنوياتهم...


وقلَّب أَرْطِبُونُ بصره في الصفوف فوجد
رجاله قد سيطر عليهم إعياء شديد، واضطربت صفوفهم، وأن المسلمين يحصدونهم بسيوفهم
حصدا، ففضل أن ينسحب بجيشه إلى موقع يستطيع فيه المقاومة أكثر، فانسحب بهزيمة ثقيلة
إلى بيت المقدس الحصينة محتميا بها، وذلك في النصف الثاني من سنة خمس عشرة
للهجرة.




معاويةُ يفتح قَيْسَارِيَّةَ
وعَسْقَلانَ:


طار كتابٌ من أمير المؤمنين عمر إلى الأمير
الموهوب معاويةَ بن أبي سفيان بأن يفتح للمسلمين قَيْسَارِيَّةَ، فسار إليها بروحِه
الوثَّابةِ، وحاصرها، فكانوا يزحفون إليه ويزحف إليهم مرات دون أن يفتحها أو يرجعَ
عنها، وثبت المسلمون في مواضعهم، فإذا بالقدَر الإلهي يمهد لفتح المدينة من باب
لطفٍ إلهي خفي، لقد جاء يهودي إلى المسلمين ليلا، وأرشدهم إلى طريقٍ يدخلون منه
المدينة، على أن يؤمِّنوه وأهلَه، فدخل المسلمون قَيْسَارِيَّة ليلا وكبّروا فيها،
فتزلزلت الأرض بالروم، وظنوا أن المسلمين قد جاءوهم من كل ناحية، ففروا لا يفكرون
في شيء إلا النجاة بأنفسهم، فوقع قتال شديد انجلى عن نصر باهر للمسلمين، ثم كتب عمر
إلى معاويةَ بفتح ما بقي من فِلَسْطِين بعد أن فتح بيت المقدس والرَّمْلة، فمال
معاوية بجنده إلى عَسْقَلانَ، ففتحها صلحا.


البشارة النبوية بفتح بيت
المقدس:


روى البخاري في صحيحه عن عَوْف بْن مَالِكٍ
قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَةِ
تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَقَالَ: اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ
السَّاعَةِ: مَوْتِي ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ـ حتى أحصى ستة
أشياء.


هكذا أتت البشارة النبوية بفتح بيت المقدس
واضحة صريحة، وحددت بدقة أن الفتح لن يكون في حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
بل بعد لحاقه بالرفيق الأعلى..


لقد كانت الذاكرة النبوية وهو في تبوك، على
مقربة من بيت المقدس، تستحضر وضع المدينة المباركة، والأَسْر الطويل الذي وقعت فيه،
فلا زالت القوى الغريبة عنها تسيطر عليها..


جاءت البشارة في زمن كان الروم فيه يسيطرون
بقوة على المدينة المباركة، حتى إن الناظر إلى حالها يتيقن تماما أنهم لن يخرجوا
منها، وظن الروم أن المدينة التي استرجعوها من بين أنياب الفرس لن تخرج من أيديهم
مرة أخرى أبدا..


لقد خرجت البشرى من رحم الواقع الصعب، لكنها
إلهية المصدر، وليست اجتهادا من النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم، ولأنها إلهية
فإن كثرة المعوقات، وصعوبة الطريق لن تحول بينها وبين التحقق.. (وعد الله الذين
آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن
لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدّلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي
شيئا..).


فتح بيت المقدس:

عقب معركة أجنادين تمهَّد الطريق أمام
المسلمين نحو القدس، وأسرعت خُطى التاريخ، واقترب اليوم الخالد، يوم الفتح الذي
يُذَكِّر بفتح مكة، فالمسلمون يحاصرون بيت المقدس، بل قل إنهم يعانقون هذه المدينة
ومسجدَها المباركَ، تلك التي لازمتْها القداسة حتى في اسمها.. يسترجعون من المدينة
ذكريات أنبيائها وصالحيها، فهذا الخليل وابنه إسحاق، ويعقوب وبنوه، وهذا داود وابنه
سليمان، وهذه مريم وابنها، وزكريا ويحيى، وكثير وكثير ممن ملأوا هذه الأرض بنور
السجود وضياء التسبيح والركوع..


حرص عمرو بن العاص قبل أن يأتي بجنوده إلى
القدس والرَّمْلة على أن يفتح ما حولهما من المدن، ليمنع عن الروم أي مدد، فحرر
رَفَحَ وغَزَّةَ وسَبَسْطِيةَ ونابْلُس ولُدَّ وتُبنى وعَمَوَاسَ وبيتَ جَبْرِين
ويافا ومَرْجَ عُيون.. فكان بذلك يحفظ قداسة بيت المقدس أن يسفك فيها دم، أو تتلطخ
بقتال ينتهك حرمتها.


وبدا الروم لدى مقدم عمرو بجيشه محبوسين بين
جدران المدينة التي صبغوها بمذهبهم في المسيح، وأرادوا أن يفرضوه على العرب والقبط
في الشام ومصر وغيرهما..


ولم تكن بيت المقدس في ذلك الحين سوى مدينة
رومانية في اسمها (إيلياء)، ورومانيةٍ في طراز أغلب مبانيها، يتجول في شوارعها جنود
الإمبراطورية، وتتحرك في أنحائها وجوه من عناصر شتى، غير أن سمت أهلها من العرب لا
تخطئه عين الناظرين.


كانت المدينة قد ضاقت بالاحتلال، وسمعت عن
عدل الفاتحين الجدد الذين يقولون إنهم يهتدون بخُطى الأنبياء، ويضعون "إيلياء" موضع
الإجلال والتقديس، ويشاركون أهل المدينة في عروبة أصولهم.


وبدأ عمرو فضرب الحصار حول المدينة أربعة
أشهر، حتى ضاق صدر الروم من بأس المسلمين وصبرهم، بالرغم من الشتاء القارس والعوامل
الجوية الصعبة، فانسحب أتباع قيصر والأرطبون من بيت المقدس، وودّعوها في حسرة
قاتلة.


وطلب أهل المدينة الصلح، على أن يأتي أمير
المؤمنين عمر بنفسه ليتسلم مفاتيح القدس، فاستجاب لهم المسلمون، وأقبل عمر، في حادث
من أكبر الأحداث في تاريخ المدينة المباركة، وتسلم المدينة من بِطْرِيكها
صفرنيوس.


حصار المسلمين بيت المقدس:

اعتاد من يسيطر على القدس منذ القِدَم أن
يلفها بالأسوار، ويقيم حولها الحصون، حماية للمدينة الغالية من الغزاة والمغامرين.
وقد عُثر في الأردن على خريطة ثمينة من القرن السادس الميلادي، تشرح وضع القدس في
هذا الزمن، حيث بدت محاطة بسور فيه عدة أبراج ومجموعة أبواب، وفي الداخل تبدو
المباني الفخمة، وأهمها الكنائس.


وحينما قَدِمَ عمرو بقواته سنة 637م وجد
المدينة حصينة منيعة، قد احتمى بها الرومان، وليس من اليسير اقتحامها عليهم، فضرب
الحصار حولها، وراح يبحث عن فرصة أو فرجة للدخول، ولكن مرت ثلاثة أيام دون أن يجد
شيئا من ذلك، فاستجمع قوته وتقدم نحو الأسوار، فأمطرهم الروم بالنبال، والمسلمون
يصدونها بتروسهم.


وقدمت إلى عمرو معونات من القادة الآخرين
بالشام، فلم يمر يوم إلا وقع فيه قتال، حتى مرت أربعة أشهر، لم يزل المسلمون فيها
على القتال والحصار وأهلُ بيت المقدس لا يظهرون من قلوبهم همًا ولا جزعًا .. ليس
غير المنجنيقات الضخمة ترمي بالحجارة فوق القوى المحاصِرة من المسلمين، ويحتمون
داخل أسوارهم معهم السيوف والدروع ..


إلا أن طول الفترة، وصبر المسلمين العجيبَ
بالرغم من البرد الشديد ـ كانت كفيلة بأن تحبط الروح المعنوية للروم، فتراجع
أرطبونُ بقواته إلى مصر. ودعا أهلُ القدس إلى طلب المصالحة، فسار إليهم عمر بن
الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وصالحهم.


الفاروق عمر يسير إلى
القدس:


جاء إلى عمر بن الخطاب في المدينة كتاب من
أمير الفتوح في فلسطين عمرو بن العاص، يبشره بنعمة الله، وانهزام بقايا الروم في
الشام، وأن أهل إيلياء (القدس) اشترطوا أن يسلّموا المدينة إلى أمير المؤمنين نفسه،
فراح عمر يعد للسفر عدته، من الرفيق والزاد والراحلة، وسافر السفر الطويل، يقطع
المراحل والأميال.. وعلى أبواب الشام لقي قواده في الجابية، واطمأن على حال
المسلمين في بلاد الشام.


وبينما عمر في الجابية إذا بجماعة من الروم
بأيديهم سيوف مسلولة، فسار إليهم المسلمون بالسلاح، فقال عمر: إن هؤلاء قوم
يستأمنون، فساروا نحوهم، فإذا هم جند من بيت المقدس يطلبون الأمان والصلح من أمير
المؤمنين حين سمعوا بقدومه، فأجابهم ـ رضي الله عنه ـ إلى ما سألوا، ثم واصل مسيره
في جماعة من الصحابة ووجوه المسلمين نحو بيت المقدس.


وجاء وقت الصلاة، فتوجه أمير المؤمنين وصحبه
إلى القبلة، وهم يقفون على قمة جبل يشرف على القدس، وعلا صوت عمر بن الخطاب
بالتكبير، ومنذ ذلك اليوم سمى الجبل بجبل المكبِّر.


حال عمر عند سيره إلى بيت
المقدس:


كان في ذاكرة عمر، وهو مرتحل من المدينة إلى
بيت المقدس، أنه مسافر من مدينة النبي إلى مدينة الأنبياء، وهو حال يستوجب التواضع
والهيبة، فظهرت على أمير المؤمنين في هذه الرحلة علامات عبقرية الأمير، الذي يزداد
بتواضعه رفعة وسموّا.


كان هو وخادمه يتناوبان ركوب دابة واحدة في
طريقهما التاريخي من المدينة إلى بيت المقدس، حتى إذا أتعب السير أحدهما ترجَّل له
صاحبه عن بعيره ليركبه، وعلى مشارف القدس كان رفيق عمر هو صاحب الدَّوْر في امتطاء
البعير، فأبى أمير المؤمنين إلا أن يركب صاحب الدور، وإلى جانبه سار الخليفة الفاتح
على قدميه..


وقدم عمر الجابية على طريق إيلياء على جمل
أورق، وتظهر رأس الأمير للشمس ليس عليه قلنصوة ولا عمامة، تهتز رجلاه بين شعبتي
الرحل بلا ركاب، معه كساء صوف يتخذه سرجا إذا ركب وفراشا إذا نزل، ومعه شملة محشوةٌ
ليفا يتخذها حقيبة إذا ركب ووسادة إذا نزل، وعليه مرقعة من الصوف فيها بضع عشرة
رقعة بعضها من جلد.


وعندما جاء ميعاد زيارة بيت المقدس وهمَّ
الخليفة بالركوب بهيئته الزاهدة قال المسلمون: يا أمير المؤمنين، لو ركبت غير بعيرك
جوادًا، ولبست ثيابًا لكان ذلك أعظم لهيبتك في قلوب القوم، فقال: "نحن قوم أعزنا
الله بالإسلام فلا نطلب بغير الله بديلاً". لكنهم أقبلوا يسألونه ويطوفون به إلى أن
أجابهم إلى ما يريدون، ونزع مرقعته، ولبس ثيابًا بيضاء وطرح على كتفه منديلاً من
الكتان ليس جديدًا ولا بالخَلِق، دفعه إليه أبو عبيدة وقدّم له بِرْذَوْنًا أشهب
(وهو نوع من الحمير الكبيرة) من براذين الروم، فلما صار عمر فوقه جعل البرذون
يَحْجِل، فنزل عنه مسرعًا، ثم صاح: أقيلوني أقال الله عثرتكم يوم القيامة، لقد كاد
أميركم يهلك مما داخله من الكبر، وإني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول:
"لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من الكبر".. فأُتى بجمله
فركبه.


وحين قدم عمر الشام عرضت له مخاضة ماء، فنزل
عن بعيره ونزع موقيه (وهو ما يلبس فوق الخفين)، فأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه
البعير، فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صنيعا عظيمًا عند أهل الأرض، فضرب عمر
صدره برفق، وقال: "أولو غيرك يقولها يا أبا عبيدة! إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس
وأقل الناس، فأعزَّكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة بغيره يذلكم
الله".


عمر يتسلم مفاتيح بيت
المقدس:


قبل أن يغادر عمر الجابيةَ في لقائه مع قواده
بالشام أتاه وفد من أهل بيت المقدس يلتمسون عنده الصلح، فبذله لهم، وكتب لهم بذلك
كتابا، فرجعوا وقد علموا أن هذا الكتاب وهذا الصلح نصر تحقق لهم، فقد جاءهم أمير
عادل وقوم منصفون، وذهب عنهم بطش الرومان وظلمُهم واضطهادُهم.


ومضى أمير المؤمنين إلى بيت المقدس،
والتواضعُ لله وحدَه يكسو عمر وأصحابَه هيبةً ووقارًا.


إنها بشارة من بشارات الصادق المصدوق محمد ـ
صلى الله عليه وسلم ـ ووعد من موعودات الله لخلقه المؤمنين يتحقق أمام عيون الركب
المبارك، وشريط الذكريات لا زال يعيد نفسه يوم كان النبي يلقي ببشرى فتح بيت المقدس
في تبوك..


ولما أشرف بطريرك بيت المقدس من السور، ورأى
جمع المسلمين يتقدمهم أمير المؤمنين، صاح بأعلى صوته "هذا والله الذي نجد صفته
ونعته في كتبنا، ومن يكون فتح بلادنا على يديه بلا محالة". وكان ذلك بقية صادقة مما
في كتب أهل الكتاب عن الصالحين من أسلافهم..


ثم قال البطريرك لأهل بيت المقدس: "يا ويحكم
انزلوا إليه واعقدوا معه الأمان والذمة"، فنزلوا مسرعين، وكان الحصار الشديد قد
أضناهم وشق عليهم، ففتحوا الباب وخرجوا إلى عمر يسألونه العهد والميثاق والذمة
ويقرون له بالجزية، فخر عمر ساجدًا لله على بعيره..


وكان ذلك شاهدًا قويًّا على أن أهالي القدس
وجدوا في الدولة الإسلامية الفتية ينبوع أمن وأمان لهم ولمدينتهم، يصون لهم
خصوصياتهم، ويمنحهم حرية العقيدة بلا إكراه ولا مضايقة، كما كان دليلاً واضحًا على
أن انسحاب الروم من بيت المقدس كان أمرًا حتميًّا تفرضه الرغبة الشعبية في هذه
المدينة ضد المستعمرين من الروم..


وكان أهم مطلب ركز عليه الوفد الشعبي لبيت
المقدس الذي لقي عمر في الجابية، وطلب منه الصلح ـ هو ألا يساكنهم في المدينة أحد
من اليهود. وقد أصر البطريق صفرنيوس حين عرض تسليم المدينة المقدسة للخليفة عمر بن
الخطاب شخصيًا على نفس المطلب الشعبي، فوافق أمير المؤمنين على ذلك، وسجله في وثيقة
محددة البنود، أضاف فيها شروطًا تنص على احترام مقدسات هذه المدينة، وما يكفل لها
السلامة أيضا من بقايا الروم وعملائهم.


ودخل الفاروق المسجد الأقصى من الباب الذي
دخله منه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة الإسراء، ونظف بنفسه الصخرة
المباركة، وتسلم مفاتيح المدينة الطاهرة في لحظةٍ تاريخيةٍ من أعز لحظات الزمن.
وقضى الخليفة في القدس خمسة أيام ثم رجع إلى المدينة.


لقد كان فتحًا لم تشهد المدينة مثله في
تاريخها الطويل، والمأساوي في غالب الأحوال، فبعد أن استسلم أهل المدينة لم
يَحْدُثْ قتل أو تدمير للممتلكات، أو إحراق للرموز الدينية المنافسة، وأيضا لم يكن
هناك طرد للسكان، أو نزع للملكية، أو محاولة لإجبار السكان على اعتناق الإسلام ..


وعاشت القدس منذ هذه اللحظة في رحاب الإسلام:
بدءا من خلافة الراشدين، فالدولة الأموية، فالحكم العباسي، وما تفرع عنه من
الطولونيين والإخشيديين، ثم جاء الحكم الفاطمي، ثم احتلها الصليبيون في ذيل القرن
الخامس الهجري، حتى استردتها جيوش صلاح الدين بعد اثنين وتسعين عاما من
الاحتلال.


الوثيقة العمرية لأهل بيت
المقدس:


"بسم الله الرحمن الرحيم:

ـ هذا ما أعطى عبد الله عمر بن الخطاب أمير
المؤمنين أهل إيلياء من الأمان:


ـ أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم
وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها.


ـ أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص
منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكْرَهون على
دينهم، ولا يضار أحد منهم.


ـ ولا يَسْكن بإيلياء معهم من
اليهود.


ـ وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما تعطي
أهل المدائن (أي المدن الأخرى من بلاد الشام).


ـ وعليهم أن يُخْرجوا منها الروم واللصوت (أي
اللصوص).


ـ فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى
يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من
الجزية.


ـ ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله
مع الروم ويخلي بِيَعَهم وصُلُبهم فإنهم آمنون على أنفسهم، وعلى بيعهم وصلبهم حتى
يبلغوا مأمنهم.


ـ ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان،
فمن شاء منهم قعدوا عليه مثلُ ما على أهل إيلياء من الجزية.


ـ ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى
أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يُحْصَد حصادهم.


ـ وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله
وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أَعْطَوا الذي عليهم من الجزية.


ـ وشهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن
العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان.


ـ وكُتِب وحُضر سنة خمس عشرة ..


(وفي تاريخ الفتح خلاف، وإن كان الراجح هو
أنه في سنة ست عشرة).


أيام عمر في بيت المقدس:

جاء دخول أمير المؤمنين القدس يوم الإثنين
ملبيًا، وأقام بها حتى يوم الجمعة، فاستقبله زعماء المدينة وعلى رأسهم البَطريرك
صفرنيوس الذي تولى شرح تاريخ المشاهد الدينية بالمدينة للخليفة عمر الذي طلب مشاهدة
الأماكن المقدسة .. كان ذلك وسط مشاهد الاندهاش من سكان المدينة، وفي حضور قادة
الجند المسلمين ووجوه الناس...


كان عمر حريصا في تلك الزيارة على مشاهدة
معالم المدينة التي كان يحمل لها صورة أخذها عن الرسول الكريم الذي وصف المدينة
للناس عقب معجزة الإسراء.. وتكرر وقوف الركب في عدة أماكن التبس على البطريق نفسه
أنها المسجد الأقصى، خاصة أن موقع المسجد الأقصى والصخرة المقدسة قد تعرض للعبث
والإهمال أثناء الاحتلال الروماني للقدس، وغدا بقعة تغطيها القمامة، انتقاما من
اليهود الذين أهانوا كنيسة القيامة عند احتلال الفرس للقدس..


وحين اقترب الركب من هذا المكان بدأ الخليفة
فحص معالمه، وتأكد أنه المكان المبارك .. عندها راح الخليفة العظيم في تواضع يجمع
القمامة، ويذهب ليلقيها في وادي قدرون الواقع في شرق المكان، فاقتدى به المسلمون،
حتى طَهُر المكان وتطهر واتضحت معالمه، كما ظهرت الصخرة المباركة.


وحين بدا محراب داود صلى عمر ـ رضي الله عنه
ـ بالمسلمين صلاة الصبح، فقرأ في الركعة الأولى سورة [ص] وسجد فيها والمسلمون معه،
كما سجد داود من قبل، وفي الركعة الثانية قرأ سورة الإسراء..


وبنى عمر المسجد العمري الذي كان يؤمه
المسلمون من أهل المدينة المقدسة، والقادمين إليها للزيارة عبر الزمان، حتى جدده
الأمويون في عهد عبد الملك بن مروان..


وكان عمر قد رفض الصلاة في موضع بكنيسة
القيامة، حين عرضها عليه البطريق صفرنيوس، صيانة لخصوصيات أصحاب الكنيسة، حتى لا
يبني المسلمون مكانها مسجدًا، مدعين أنه مكان صلى فيه أمير المؤمنين
..


بيت المقدس من الفتح العمري إلى نهاية عهد
الخلفاء الراشدين:


قبل أن ينصرف عمر بن الخطاب عن الشام، بعد أن
تسلم مفاتيح بيت المقدس ـ راح ينظم البلاد إداريا، ويوزع السلطات بين أمراء
المسلمين، فجعل الإمارة العامة في الشام في يد أبي عبيدة بن الجراح، ووقعت القدس
ضمن إمارة يزيد بن أبي سفيان، الذي أمره الخليفة بالرجوع في أموره إلى قائده العام
أبي عبيدة..


ولكن ما لبث طاعون عمواس أن اجتاح فلسطين وما
جاورها عام السابع عشر من الهجرة، حيث مات عدد كبير من عامة المسلمين ووجهائهم
وقادتهم، كأبي عبيدة ومعاذ بن جبل ويزيد بن أبي سفيان..


وبوفاة يزيد نقل عمر ما تحت يديه من السلطة
إلى أخيه معاوية، وصارت القدس بذلك تحت سلطة أمير جديد من بني
أمية..


وجاء أمير المؤمنين الثالث عثمان بن عفان من
البيت الأموي أيضا، مؤكدا أن الإسلام يصطفي الرجال على اختلاف مشاربهم ومواهبهم،
فأقرّ عثمانُ معاويةَ على الشام، اقتداء بعمر الذي أدرك موهبة الفتى الهمام
مبكرا.


وإذا كان عثمان قد عُرف بالكرم والجود، حتى
اشترى للمسلمين بالمدينة المنورة بئر رُومة من طيب ماله، وبثمن كبير ـ فإن القدس
وأهلها أيضا قد نالتهم نفحة من جود عثمان، حيث وقف على ضعفاء أهل المدينة المقدسة
عين ماء تسمى "عين سلوان"، وهي عين غزيرة تسقي الكثير من الجنان، وقيل إن عثمان وقف
الحدائق التي تسقيها هذه العين على نفع المسلمين أيضا.


وبعد عثمان ـ رضي الله عنه ـ بقيت السلطة على
بيت المقدس، وعلى الشام كله، في يد معاوية بن أبي سفيان. وحتى حين تولّى علي بن أبي
طالب إمارة المؤمنين، ودخل في نزاع شديد مع والي الشام معاوية، فإن أمير المؤمنين
لم يستطع السيطرة على بيت المقدس، وظلت في يد معاوية إلى أن قامت الدولة الأموية،
وبويع معاوية بالخلافة في القدس عام أربعين من الهجرة.


بنو أمية والقدس:

تنافس هاشم بن عبد مناف وأخوه عبد شمس جد بني
أمية في الجاهلية على الشرف والسيادة، فتفوق هاشم، وحاز قَصْبَ السَّبْق، وأصبح أحق
بالرياسة على قريش.. وفي نفس الوقت تفرغ أخوه للتجارة حتى برع فيها، وتجول بتجارته
في كثير من البلاد، وورث أبناؤه عنه ذلك..


وفي رحلة له إلى بلاد الشام توفي هاشم، ودُفن
في غزة على مقربة من بيت المقدس، وأدرك الأجل أخاه عبد شمس أيضا، وهو صاحب معرفة
جيدة بمدن الشام وقراه، فظلت المنافسة بعدهما، على كل أنواع الرياسة والسيادة،
شديدة بين البيتين الهاشمي والأموي..


فلما بعث الله نبيه محمدا ـ صلى الله عليه
وسلم ـ من بني هاشم، آمن به أناس من الفريقين، وكفر به أناس من الطرفين كذلك.. فلما
انتصر الإسلام جمع الفريقين تحت ردائه، وعد العصبية للآباء والأعراق بقية من ميراث
الجاهلية البغيض..


واستعمل المسلمون مواهبهم في العمل لدينهم،
لا فرق في ذلك بين هاشمي وأُموي، حتى خضعت لهم أعظم بلاد الدنيا المعمورة حينئذ،
ومنها مدينة بيت المقدس، التي استُشهد في الطريق إلى فتحها الكثير من عظماء الرجال
من الهاشميين والأمويين وغيرهم..


ولم يمر وقت طويل حتى وقع الخلاف بين
المسلمين بعد استشهاد عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وقد كان قتل الأمير هو الفتنة
التي تفرّق المسلمون لأجلها، إذ أصر فريق يقوده معاوية بن أبي سفيان على سرعة الثأر
من المجرمين، في حين رأى علي بن أبي طالب أن ذلك ليس مأمون العواقب إلا حين تستقر
أمور الدولة في يديه..


ولم ينته هذا الخلاف إلا حين قُتل أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب شهيدا بيد أحد الخوارج، وتنازل الحسن بن علي عن الخلافة
حقنا لدماء المسلمين، فآلت الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان، لتبدأ فترة جديدة
يعْرفها المؤرخون بـ "الدولة الأموية"..


واتخذ الأمويون كرسي ملكهم في بلاد الشام،
حيث يجتمع أنصارهم، وبالتالي كانت القدس قريبة من عيونهم، فترك العديد من خلفاء بني
أمية في المدينة المقدسة علامات خالدة وأعمالا كبيرة، لا زال العديد منها باقيا ـ
بصورة من الصور ـ يشهد لهم، كما فعل عبد الملك بن مروان وابنه الوليد ، ومثلما صنع
سليمان بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز..


وقد بويع في القدس بإمارة المؤمنين للعديد من
خلفاء بني أمية، مثل معاوية بن أبي سفيان والوليد وسليمان ابني عبد الملك.


وحفظ التاريخ لنا وصفا جميلا للمدينة المقدسة
أثناء الحكم الأموي.


وصف القدس في زمن بني
أمية:


معاوية بن أبي سفيان من الشخصيات الكبيرة
التي شهدت انتقال القدس إلى السيادة الإسلامية، فكان من أفراد الركب المسلم الذي
التف حول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وهو يتسلم مفاتيح بيت المقدس من بطريرك
المدينة صفرنيوس..


ولم يكن معاوية حاضرا عاديا لهذا المشهد
الكبير، بل كان أحد الشهود على وثيقة العهد الذي كتبه عمر لأهل بيت
المقدس..


وحين صارت الخلافة إلى معاوية سنة إحدى
وأربعين للهجرة، كانت القدس تعرفه ويعرفها، إذ مكث زمنا طويلا أميرا عليها وعلى
الشام كله.


وقد وصف المؤرخون القدس تحت ظلال الأمويين
فقالوا: "كان للقدس يومئذ سور، وكان على ذلك السور أربعة وثمانون برجًا، وله ستة
أبواب، ثلاثة منها فقط يدخل الناس منها ويخرجون: واحد غربي المدينة، والثاني
شرقيها، والثالث في الشمال. وكان يؤم المدينة، في اليوم الخامس عشر من شهر أيلول
(سبتمبر) من كل سنة، جماهير غفيرة من مختلف الأجناس والأديان بقصد التجارة، ويقضي
هؤلاء فيها بضعة أيام. وكان فيها مسجد مربع الأضلاع، بُني من حجارة وأعمدة ضخمة
نقلت من الأطلال المجاورة. وهو يتسع لثلاثة آلاف من المصلين. والمعتقد أن هذا هو
المسجد الذي بناه عمر بن الخطاب. وكان جبل الزيتون مغطى بأشجار العنب والزيتون.
وكان سكان بيت المقدس يومئذ يأتون بالأخشاب التي يحتاجون إليها من أجل البناء
والوقود، تنقل على الجمال من غابة كثيفة واقعة على بعد ثلاثة أميال من الخليل إلى
الشمال".


القدس في عهد عبد الملك
والوليد:


يُعد عبد الملك بن مروان المؤسس الحقيقي
للدولة الأموية، فقد أنقذها من الانهيار، وانتصر على منافسه القوي عبد الله بن
الزبير، حتى خضعت له الحجاز والعراق، وانفرد بالحكم في العالم
الإسلامي.


وقد جاء من بعده ابنه الوليد، فبلغت الدولة
في عهده شأنا كبيرا، وكثرت الفتوحات حتى وصل المسلمون إلى أوروبا من جنوبها الغربي،
وفتحوا الأندلس، كما توغلوا في آسيا إلى الشرق والجنوب، وفتحوا السند
والهند..


ولعبد الملك والوليد في القدس أعمال خالدة،
ما زال بعضها قائما إلى اليوم، فبناء المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة هما من أعمال
عبد الملك والوليد وقد رصد عبد الملك لبناء قبة الصخرة وحدها خراج مصر سبع سنين،
كما عبّد طريق القدس إلى الشام، وطريق القدس إلى الرملة.


وأما الوليد، فقد بويع بالخلافة ـ فيما يقال
ـ على سطح الصخرة المقدسة، وواصل عمل أبيه في بناء المسجد الأقصى حتى أتمه، ورتب له
الخدم والرعاة الذين يصونونه.


سليمان بن عبد الملك وبيت
المقدس:


سليمان هو ثاني أبناء عبد الملك بن مروان
الأربعة (الوليد وسليمان ويزيد وهشام) الذين تولوا الخلافة بعد أبيهم، وكان آخرُ
مناصبه قبل مبايعته بالخلافة العامة (سنة ست وتسعين) هي الولاية على
فلسطين..


وقد أعطى هذا المنصب لسليمان معرفة جيدة
بفلسطين ومدنها، وعلى رأسها القدس والرملة، وكان محببا إليه الجلوس تحت قبة السلسلة
بأرض الحرم القدسي الشريف.


وترجم سليمان حبه للقدس عقب توليه الخلافة
بصورة أبهى من ذلك، فبويع على سطح الصخرة تحت القبة التي بناها أبوه، في مشهد مبهر،
اجتمع فيه الناس حول الخليفة الجديد وإلى جانبه المال وكتّاب
الدواوين.


وكاد سليمان أن يتخذ قرارا، هو الأول من نوعه
في تاريخ المسلمين، بنقل العاصمة إلى بيت المقدس أو الرملة، وسيطرت على تفكيره
حينئذ صورة نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ وهو يحكم مملكته القوية من بيت
المقدس.. ولكن هذا الأمر لم يتحقق، ربما للموت السريع الذي أدرك سليمان بن عبد
الملك سنة ثمان وتسعين وهو في مرج دابق شمالي الشام.


العباسيون والقدس:

مع العباسيين بدأت العاصمة تنتقل شرقًا إلى
العراق، حتى بنى المنصور بغداد هناك، فاختطفت الأضواء من كل مدن الدنيا، وبهذا
تراجعت مكانةُ الشام ومدنِه عما كانت عليه في عصر الأمويين، وبرزت أسماء الكوفة
وبغداد والبصرة ، بدلاً من دمشق وبيت المقدس والرملة.


وعلى الرغم من ذلك فقد اهتم العباسيون منذ
بداية دولتهم (سنة مائة واثنتين وثلاثين للهجرة) بإدخال الشام وفلسطين تحت سلطانهم،
لما لهذه المنطقة من أهمية بالغة، فدخلها صالح بن عليّ عمُّ الخليفة المنصور في نفس
السنة، في خمسين ألف مقاتل، وضمها إلى التاج العباسي المنتصر.


وكان من نصيب الشام في بداية الدولة العباسية
أن تقع تحت إمارة رجل من البيت الحاكم، تميز بالغلظة والشدة، وهو عبد الله بن عليّ
الذي تَتَبَّع الأمويين في كل مكان من فلسطين والشام، وقتل الكثيرين منهم، وتسبب في
ثورتهم ضد الخلافة الجديدة في دمشق وقِنَّسْرين؛ حيث وُوجِهُوا بشدة
بالغة.


وعقب تولي المنصور للخلافة سنة مائة وست
وثلاثين، ثار عمُّه عبدُ الله بنُ عليّ ضده في الشام، وسار عبد الله على نهجه
السابق في الغلظة والشدة، واستقل بالشام عن الدولة، مدعيًا أنه أحق بالخلافة من
المنصور ابن أخيه، وحين لم يستجب لنداءات المنصور السلمية، بعثت إليه الخلافة جيشًا
كبيرًا انتزع منه الشام، فصارت بيت المقدس تحت تاج الخلافة العباسية
المستقرة.


ومنذ استقرت الأمور للبيت العباسي تعود
الخلفاء تفقد مدن الشام، وزيارة بيت المقدس، كما فعل المنصور حين خضعت له الشام.
وانصب اهتمامهم في الغالب على المسجد الأقصى، فرَعَوْه واهتموا به، وتابعوا ترميمه
وبناءه، كما فعل المنصور والمهديُّ والمأمون.


ومن القضايا العباسية الأخرى ذات الصلة ببيت
المقدس، علاقة الخلافة بالمسيحيين من أهل القدس، وتأثر وضع المدينة بالتقلبات
السياسية في عموم الدولة حينما ضعفت حتى خضعت القدس للطولونيين، ومن بعدهم
للإخشيديين، ثم الفاطميين.


علاقة العباسيين بأهل الذمة في
القدس:


في الصراع الأموي العباسي وقف أهل الذمة في
بيت المقدس على الحياد، فهو صراع "لا ناقة لهم فيه ولا جمل"، فبقيت أمورُهم مستقرة،
يزاولون حياتهم وعقيدتهم بحرية، على الصورة التي تعهد لهم بها المسلمون منذ الفتح
العُمَرِيِّ للقدس.


فلما تولى المهدي الخلافة سنة مائة وثمان
وخمسين للهجرة، اعتنى بمواجهة البِدعة والانحراف العقائدي في صفوف المسلمين، ونفى
إلياس الثالث بطريرك بيت المقدس إلى بلاد فارس؛ لعصبية دينية ظاهرة من البطريرك نحو
دينه، كما أسكن "المهدي" المسيحيين من أهل القدس في حي واحد
بالمدينة.


وفي عهد الرشيد بلغت الدولة ذروةَ مجدِها،
وصب هذا في اتجاه تحسين معاملة الدولة لأهل الذمة بصورة كبيرة في بيت المقدس وعموم
الدولة.


وأكثر من ذلك سمح الرشيد للإمبراطور شارلمان
بترميم كنائس المدينة، وتعهد الخليفة بحماية الحجيج من النصارى الذين يَفِدُونَ إلى
بيت المقدس لزيارة أماكنِهم المقدسة.


وتبادلت وفودُ الرشيد ـ الذي كان يحكم أكبر
ممالك الدنيا في هذا الزمان ـ ووفودُ شارلمان ـ الذي كان يحكم جزءًا كبيرًا من غرب
أوروبا وجنوبها ـ تبادلت هذه الوفود الزيارات في رحلات طويلة ومتتابعة، وفي إحدى
هذه الزيارات إلى بغداد منح أميرُ المؤمنينَ هارون الرشيدُ الوفدَ المسيحيَّ
مفاتيحَ كنيسة القيامة ـ أكبر أثر نصراني في القدس ـ ليسلموها إلى سيدهم
شارلمان.


الطولونيون والسيطرة على
القدس:


بعد انقضاء عصر الخلفاء العباسيين العظام،
بدأت سيطرة خلفائهم على الدولة تضعف، وكان ذلك بعد انقضاء قرن واحد من عمر الدولة،
أي في سنة مائتين واثنتين وثلاثين، ومن هنا كثُرت انشقاقاتُ القادة واستقلالُهم عن
الدولة، وأصبح ذلك غير قاصر على الأطراف، وإنما امتد ليصل إلى القلب، حتى صار مقام
الخليفة يشبه المنصب الشرفي في كثير من الأحيان.


ومن القادة الذين اجترءوا على الاستقلال ببعض
أجزاء الدولة أحمد بن طولون، الذي كان أبوه رجلاً تركستانيًا اصطفاه المأمون في
الخدمة، حتى صار قائدًا للحرس الخلافي. وورث أحمد عن أبيه القرب من العباسيين،
واستغل فرصةَ ضعف الدولة، فاستقل بمصر، وسيطر معها على الشام، وأقام دولة لأسرته،
يتوارثون فيها المُلك عن بعضهم بعضا.


وقد سيطر ابن طولون على القدس عام مائتين
وخمسة وستين من الهجرة، ووطد سلطانه في الشام، بعد أن وطده في مصر.


وفي عهد ابن طولون عانى نصارى بيت المقدس من
بعض المتاعب، فقد مُنعوا من لبس الدروع إلا بشروط، وحُظر عليهم ركوبُ
الخيل.


كما وقع خلاف حاد بين بعض القبائل العربية
المقيمة في فلسطين، فاقتتل بنو لخم وبنو جذام في عهد ابن طولون قتالاً
شديدًا.


لقد كان وضع القدس في فترة الحكم الطولوني
خاملاً بوجه عام، حتى خرجت من أيديهم بعد حكم دامَ سبعةً وعشرين عاما فقط، وبعدها
بقليل دخلت المدينة تحت سلطة الإخشيديين.


القدس تحت سلطة
الإخشيديين:


بعد ضعف أمر الطولونيين، عيَّنَ الخليفة
العباسيُّ "القاهرُ بالله" فارسًا وقائدًا يدعى محمد بن طغج واليًا على مصر والشام
سنة ثلثمائة وسبع وعشرين للهجرة، وتلقب بـ "الإخشيد"، لكنه استقل بالمنطقة تحت
سلطانه، وكون دولة يتوارث أبناؤه الملك فيها.


وكانت لهذه الدولة علاقة قوية بالقدس، تدل
على مكانتها الخاصة في نفوس أمرائها، فقد سيطر محمد بن طُغج الإخشيد عليها وعلى
جميع الشام سنة ثلثمائة وثلاثين للهجرة، وبعدها بأربع سنوات حضرته الوفاة في دمشق،
فأوصى بأن يدفن في القدس، وقيل إنه توفي في القدس ودفن فيها أيضا.


وتتابع أمراء الإخشيديين بعد مؤسس الدولة،
وكلهم يعشق تراب القدس، ويوصي عند حضور أجله بأن يدفن فيها، حدث ذلك مع أنوجور بن
محمد الإخشيد سنة تسع وأربعين وثلثمائة، وتكرر مع أبي الحسن بن محمد الإخشيد سنة
أربع وخمسين وثلثمائة للهجرة، حيث دفن إلى جوار أبيه وأخيه في تراب بيت
المقدس.


وجاء كافور الإخشيدي، وكان من رجال الدولة من
خارج البيت الحاكم، فسيطر على شئونها، وخُطب له فوق منابر القدس ومصر والحجاز
والشام والثغور، لكنه لم يلبث أن توفي هو الآخر سنة خمس وخمسين وثلثمائة، ودفن في
ثرى بيت المقدس.


ويسجل التاريخ أن والي بيت المقدس أيام
كافور، ويسمى محمد بن إسماعيل الصُّنْهَاجِيّ، خالف سنة المسلمين في معاملة أهل
الكتاب، فأحرق أتباعُه كنيسة القيامة، حتى سقطت قبتها، ونهبوا "كنيسة صهيون"
وأحرقوها، وكانت لليهود في ذلك يَدٌ، حتى هدموا وخربوا من ممتلكات النصارى في القدس
أكثر مما فعل الوالي وأتباعه.


وبوفاة كافور انهارت الدولة التي لم تجد
رجلاً قويًا من البيت الإخشيدي يضبط شئونها، فحل الفاطميون محلهم، وسيطروا على مصر
والشام والحجاز.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alkaram.forumarabia.com
 
تاريــخ فلسطين
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: قسم الأبحاث-
انتقل الى: